فى العام الماضى، كتبت على صفحتى الشخصية على «فيسبوك» عن الناقد والمفكر الكبير القدير الدكتور محمد بدوى، وعن كتابه المرجعى «الرواية الحديثة فى مصر».. لم أكن أريد سوى أن أحييه، وأعبر عن امتنانى ومحبتى له. لكن ما زال يحزننى للغاية أن هذا الناقد والمفكر الكبير لم يجمع ما كتب حتى الآن، ولم يخرج كلَّ ما فى جعبته من كتبٍ ومؤلفات.. أنتظر منذ خمس وعشرين سنة كتابَه عن نجيب محفوظ (منذ قرأت دراسته المذهلة «مملكة الله» عن الحرافيش المنشورة فى مجلة فصول؛ لم يكتب مثلها ولم أقرأ لها نظيرا حتى الآن). أتمنى من قلبى أن أرى أعمال بدوى التى لم تنشر أو التى نُشرت متفرقة ولم تجمع فى كتاب حتى الآن.. الكتاب يبقى، الكتاب يعول عليه، ولأكرر ندائى وإلحاحى بضرورة نشر ما لم ينشر.. كفى كسلًا يا أستاذ (بصوت محمد بدوى نفسه).
بعنوان «البينية وتفكيك الظواهر الثقافية» قررت أن أكتب مقالا طويلا عن كتابه «لعب الكتابة لعب السياسة»، ثم تراجعت؛ بالأحرى استحييتُ؛ فماذا يمكننى أن أكتب وكيف أحلل نصًا لواحدٍ من أبرع من حللوا النصوص وفككوا الظواهر الثقافية باعتبارها نصوصًا قابلة للقراءة والتأويل بدورها؟
صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب عن دار ميريت للنشر عام 2003، وهو كتاب صغير الحجم يقع فى 200 صفحة من القطع المتوسط (الفوتوغرافيا وتصميم الغلاف لأحمد اللباد الفنان المدهش).
فى حواره المهم الذى أجراه معه محمد شعير فى الأخبار اللبنانية (2009) كتب شعير: «عندما أصدر بدوى كتابه «بلاغة الكذب»، الذى يحلِّل فيه العديد من النصوص التراثية، اعتبره الأساتذة التقليديون إبداعًا لا نقدًا.. لكن ماذا لو قرأوا كتابه التالى: «لعب الكتابة، لعب السياسة» الذى يخضع فيه العديد من ظواهر الواقع الثقافى المصرى للتفكيك..».
نعم. ماذا لو قرأوا هذا الكتاب الفاتن المغوى الذى حمل بذور مشروعات مذهلة لقراءة وتفكيك ظواهر ثقافية واجتماعية وسياسية فى المجتمع المصرى ما بعد 52 وحتى لحظة صدور الكتاب فى السنوات الأولى من الألفية الثالثة.
طوال ما يقرب من عشرين عاما لم يلقَ الكتاب ما يستحقه من اهتمام وقراءة، ذلك أنه طرح فى وقت مبكر ربما رؤية منهجية لقراءة وتفكيك الظواهر الثقافية؛ انطلاقًا من تجاوز فكرة التخصص المنعزل والمنكفئ على ذاته؛ ليتعامل بمنهجية حرة منفتحة مع الكتابة وارتباطها بالسياسة، محللا ومفككا، ومنتجًا لتفسيرات وتأويلات غاية فى الأهمية والقيمة، وتجسد نموذجا فذا للإفادة المنهجية من العلوم والمعارف المختلفة لقراءة وتحليل الظواهر الثقافية.
من سؤال الهوية إلى سؤال العزلة إلى إشكالية الآخر (نحن وأمريكا) إلى مشكل الحرية؛ يصول ويجول بدوى ملتقطا العلامات التى قد تمر على العين العادية، وعلى الواحد منا فلا تستوقفه، ولا تثير سؤالا ولا تحرك هاجسا؛ فيخرج منها بدلالات وتأويلات غاية فى الثراء والإدهاش؛ مشهد فى فيلم تحريك (كارتون) يستلفته لون داكن لم يلحظه أحد اختير ليكون علامة دالة لصاحبه فيستشف منه بعين الدقة والإصابة، مع علاماتٍ أخرى تتراسل فيما بينها، رؤيةً للعالم وموقفًا من الآخر ونموذجا ثقافيا يراد تكريسه وتسييده فى اللحظة الراهنة، فى إطار ما أسماه البعض تداخل الثقافات أو احتكاكها أو صراعها (على حسب!).
جملة فى مقال لهيكل، ومعالجة لأزمة ظاهرها سياسى، يفتح أفقًا لرصد التناقضات وكشفها فيما أسماه خداع الخطاب العقلى.. عنوان مسلسل درامى فكاهى يتحول إلى مادة شائقة لتحليل سوسيو ثقافى مذهل، وأخيرًا، وضمن تفكيكاته المثيرة للدهشة والإعجاب معًا يضع يده باقتدار عجيب على أبرز خصائص الكتابة الجديدة فيما يمايز بينها وبين كتابة الستينيات والأجيال الأسبق معرجًا على إطلالة سريعة لكنها شديدة التكثيف على نجيب محفوظ.
يمارس بدوى لونا من النقد؛ فيه تحليل وتقصٍ وتفكيك، ويقدم خطابه النقدى بما هو استراتيجية تحليلية فيها سحر الغمز والإشارة والإيماء، والتقطع والاستدارة إلى الخلف، وتوظيف الأمثولة والرمز، والتشبيه والمقارنة، والسخرية والرجز، واستيلاد الدلالات وإنتاجها، ومن هذا كله، ومن خلاله، تفيض الكتابة كالسياسة على حدودها وتجاوز اقتصادها ومحدوديتها؛ لأن ما تحجبه ليس ما لم تره، بل ما لم ترغب فى رؤيته، وما لم تفكر فيه ليس دليل نقصها بل دليل كثافتها!
هذه ليست قراءة، ولا عرضًا ولا أى شىء؛ مجرد تنويه بكتاب رائع منسى.. ويمكن اعتبارها أيضا تحريضًا سافرا ومباشرا وملحا على إعادة النشر، ولنكرر الرجاء والنداء والإلحاح، أفرج عما عندك يا دكتور بدوى.