سبق وأن تحدثنا عن أن كثرة التشريعات تفسد العلاقات بين الناس، وكذلك تدخل الدولة فى أمور تسير بطبيعتها على ما يرام يفسدها أيضا، هذا هو ما حدث فى قوانين الإيجارات القديمة!
يُقر الجميع بأن القاعدة الحاكمة فى كل الأمور الاقتصادية والتجارية هى «العرض والطلب»، فإذا زاد العرض على سلعة ما قل الطلب عليها، وانخفض ثمنها، وبالتالى لا داعى لتدخل الحكومة بتشريعات أو قوانين لصالح أحد الطرفين (البائع والمشترى، أو المالك والمستأجر)؛ لأن ذلك من شأنه إفساد العملية التجارية القائمة على التراضى، وبالعكس إذا قل العرض لسلعة ما زاد الطلب عليها، وبالتالى يرتفع ثمنها، فضلا عن خلق سوق سوداء، هنا يستدعى تدخل الحكومة لحماية الفقير أو الضعيف!
• • •
صدﺭ فى عهد الملك فاروق 1941 ﺍﻟﻘﺎﻧﻮﻥ ﺭﻗﻢ 151 ﺑﻤﻨﻊ ﺍﻟﻤﻼﻙ ﻣﻦ ﺯﻳﺎﺩﺓ ﺍﻟﻘﻴﻤﺔ ﺍلإﻳﺠﺎﺭﻳﺔ، ﻭﺍﻣتدﺍﺩ ﺍﻟﻌﻘﻮﺩ ﺗﻠﻘﺎﺋﻴﺎ ﻟﻤﻨﻊ ﻁﺮﺩ ﺍﻟﻤﺴﺘﺄﺟﺮﻳﻦ ﻣﺮﺍﻋﺎﺓ لظﺮﻭﻑ ﺍﻟﺤﺮﺏ العالمية الثانية؛ ﺣﻴث ﻛﺎﻥ ﻳﺘﻢ ﻁﺮﺩ اﻠﻤﺴﺘﺄﺟﺮ ﺍﻟﻤﺼﺮى، والتأﺟﻴﺮ ﻟﻸﺟﺎﻧﺐ ﺑﺄﺟﺮﺓ ﻣﺮﺗﻔﻌﺔ، وقد انتهى هذا الوضع بعد انتهاء الحرب.
وفى عهد الرئيس جمال عبدالناصر، تم إلزام المالك بخفض القيمة الإيجارية أكثر من مرة ليواكب نظام سياسة الدولة فى نهجها الاشتراكى لتلك الحقبة التاريخية التى عملت على تحقيق العدالة الاجتماعية، ودعم الفقير، فكان من تداعيات هذه التخفيضات أن أحجمت الناس عن الاستثمار فى مجال العقارات لضعف العائد المادى منها، وعليه نشأت أزمة حادة كان من أهم ضحاياها الطبقتين: المتوسطة والفقيرة.
ونتيجة لذلك، تَعرَض سوق العقارات لمفارقة تتعارض مع قاعدة «العرض والطلب» ــ السابق ذكرها ــ فأصبح العرض قليلا والسعر أيضا قليل! فانعدم الاستثمار فى العقارات، ولتصحيح هذه المفارقة، لجأت الدولة لبناء وحدات عقارية للتمليك، ومن هنا كان مولد فكرة تمليك الشقق السكنية، والتخلى عن الإيجار لضعف العائد منه، وللهروب من مشكلة عدم تحديد تاريخ نهاية للعقد، واستبداله بالتمليك!
وفى 1996، صدر القانون رقم 4، ويعد الأول الذى اتجه إلى إحداث توازن لصالح الملاك، وتوازن فى سوق الإيجارات، أعاد العقد المبرم بين المالك والمستأجر لطبيعته القانونية الصحيحة، وذلك بتحديد تاريخ بداية عقد الإيجار وتاريخ نهايته، مُعلنا بذلك نهاية لعقد غير دستورى لا ينص على تسليم الوحدة المستأجرة للمالك فى تاريخ معين، ويقضى على امتداد عقد الإيجار لورثة المستأجر، ولكن القانون لم يطبق على الحالات السابقة، وبذلك أصبح لدينا قانونين للإيجارات: القديم والجديد، وهى حالة فريدة ليس لديها مثيل فى العالم أجمع، تتنافى مع أحكام الدستور الذى يُلزمنا بوضع تشريع واحد فيما يخص شأن واحد!
منذ ذلك التاريخ، يحاول الكثيرون معالجة هذا الوضع الشاذ، ولكن جماعات الضغط المستفيدة من القانون القديم تعرقل المسيرة بكل قوة، وكان الصحفى الكبير المرحوم مكرم محمد أحمد من أهم مُنتقدى هذا الوضع، كتب فى عموده «نقطة نور» فى جريدة الأهرام مقالا بعنوان: «احترام الملكية الخاصة» (30/4/2009)، أقر فيه ضرورة احترام الملكية الخاصة، وأكد أنه حق مقدس فى كل الشرائع السماوية، وفى كل الدساتير الحديثة والقديمة، خاصة بعد ثبوت فشل نظرية ماركس بإلغاء الملكية الخاصة فى تجربة قاسية استمرت أكثر من سبعين عاما، كما انتقد قانون الإيجارات القديمة باعتباره قانونا يتعارض مع المبادئ السابقة بما فيه من اعتداء على حقوق الملاك.
وتوضيحا لقول الأستاذ مكرم، فإن حق الملكية لا يتعارض أبدا مع المبادئ الإنسانية الرفيعة، فلا أحد يُنكر حق الفقير فى حياة كريمة تلبى كل احتياجاته الأساسية مثل السكن والتعليم والعلاج، وكذلك لا ينكر عاقل أن العدالة الاجتماعية التى طالبت بها قديما كل الأديان، ونادت بها حديثا كل النظريات الفلسفية والاجتماعية والاقتصادية ضرورة حتمية لبناء مجتمع حضارى، يسوده العدل والمساواة بين المواطنين ليعُم الاستقرار فى الوطن.
ونجد هذه المبادئ منصوصا عليها فى كل الديانات السماوية، وحديثا أكد عليها فلاسفة التنوير فى القرن الثامن عشر، ومن أبرزهم جان جاك روسو فى كتابه «العقد الاجتماعى» الذى أسس نظرية التكافل الاجتماعى، ومونتسكيو فى كتابه «روح القوانين» الذى خصص فيه فصلا كاملا بعنوان «الترف» أو «البذخ» (Le luxe)، أقر فيه بأن الثراء الفاحش الذى يتمتع به قلة من أبناء أى مجتمع هو من حساب الفقراء، ومن حقوق الأغلبية، والآية القرآنية: «خذ من أموالهم صدقة تزكيهم» من صميم هذا المفهوم، فهى تأمر الحاكم بأن يأخذ من أموال الغنى لنفع المجتمع، وليسد بها حاجة الفقير، وفى قوله تعالى عن المال: «كى لا يكون دُولة بين الأغنياء منكم» تحفيز على ضرورة القضاء على سيطرة قلة من الناس على المال، فالمال فى الإسلام هو مال الله، والإنسان مستخلف فيه فى الأرض، فلا يحق له صرفه فيما لا ينفع النفس أو الناس، فما نسمع عنه فى الحاضر من إسراف وتبذير يقع فى مقام السفه، سيحاسب عليه صاحب المال.
وبالعودة لموضوعنا، جاءت قوانين الإيجارات القديمة فى وقت كانت يافطات «شقة للإيجار» تملأ الدنيا، فدفعت الطبقتان المتوسطة والفقيرة ثمنا غاليا نتيجة لسوء فهم المعنى المقصود من الاشتراكية، أو العدالة الاجتماعية التى لا تمتهن الملكية الخاصة، ولا تحاول القضاء عليها، ولكنها تحاول التقريب بين الطبقات، كما أن هذه القوانين التى ألزمت المالك تخفيض القيمة الإيجارية كانت فى لحظة معينة لمحاولة التقريب بين الطبقات، ولكن هذا الظرف انتهى الآن، وأصبحت كل حقوق المالك مسلوبة، فلم يعد له الحق فى استرداد ملكه، ولم يعد له الحق فى تعديل القيمة الإيجارية بما يتوافق مع معدلات التضخم الكبيرة، وقد تحولت هذه القوانين ــ مع مرور الأيام ــ من قوانين منظمة للعلاقة بين المالك والمستأجر إلى نوع من «التأميم»، فالمستأجر يورث الشقة لأبنائه، والمالك لا يجد شقة لأبنائه، ولا يستطيع استرداد ملكه! والغريب أن هذا «التأميم» ليس لصالح الدولة، ولكنه لصالح المستأجرين وخصما من أموال الملاك!
ومن المفارقات، أننا نجد الآن شققا تصل مساحتها لمائتى متر، وتطل على النيل، وإيجارها الشهرى لا يتعدى عشرين جنيها، فى حين أننا نجد شققا فى العشوائيات مساحتها خمسين مترا، وقيمتها الإيجارية الشهرية بمئات الجنيهات، وهذه من أغرب المفارقات لأننا نجد الأثرياء يدفعون القليل بينما الفقراء يدفعون الكثير! ومن المبكيات أن نجد بيوتا من ثلاثة أدوار فيها عشر شقق وتبلغ قيمة الأرض المبنية عليها ملايين الجنيهات، وعائدها الشهرى لا يتجاوز ثلاثين جنيها!
• • •
ومن ناحية أخرى، أين تقع العدالة الاجتماعية عندما نجد شابين يعملان بمهنة واحدة، وفى مكان واحد، وعلى درجة مالية واحدة، ويتقاضيان مرتبا متماثلا، الأول يسكن فى شقة كبيرة، ورث عقد إيجارها من والديه فى أرقى الأحياء وإيجارها عشرون جنيها، بينما الثانى يؤجر شقة بمساحة صغيرة بإيجار يتعدى ثلاثة آلاف جنيه؛ أو أن يشترى شقة بمليون جنيه كان يمكن أن يدخر ثمنها فى شهادة استثمار تدر عليه على الأقل عشرة آلاف جنيه شهريا؟
وأين تقع العدالة الاجتماعية عندما ترتفع كل أسعار الخدمات من كهرباء ومياه ومواصلات...، بنسب عالية جدا، ولا ترتفع القيمة الإيجارية للشقق القديمة؟، ثم ألم يكن الاستثمار فى بناء العقارات فى الخمسينيات وما قبلها المصدر الوحيد لشريحة كبيرة من المجتمع بديلا عن غياب التأمينات والمعاشات فى ذاك الزمان، وكان من أهم نتائجه الفائض فى العقارات؟!
يجب رفع هذا الظلم البَيِن عن شريحة كبيرة ظلمت لفترة طويلة، ولصالح الاقتصاد الوطنى؛ لأن هذه العقارات ثروة قومية لا بد من المحافظة عليها، ولا سبيل لتحقيق هذا سوى عودة الحقوق إلى أصحابها، واحترام الملكية الخاصة، والتحرك فى هذا الملف يحتاج إلى جرأة وحجة، وتلك صفات لا تنقصنا فى الجمهورية الجديدة التى تؤمن بالإصلاح، ولا إصلاح دون تحمل التكلفة، فكل تشريع جديد له ضحاياه، فالحكومة قادرة على مساعدتهم ــ خاصة وأنهم قلة ــ مثلما حدث لسكان العوامات عندما أمر فخامة الرئيس بتخصيص وحدة سكنية تتناسب مع حالة إحدى المتضررات.
وقد تنبه الرئيس لهذا الوضع، فعمل على التوجيه بإنشاء مدن جديدة، وبمستويات مختلفة ومعظمها للطبقتين: المتوسطة والفقيرة؛ وصرح فى إحدى المرات: «حخليكوا تتكعبلوا فى الشقق»، وأما المدافعون عن هذا الظلم بحجج ساذجة بادعاء أن هذه العقارات بُنيت بمبالغ زهيدة وأن الملاك حصَلوا ما دفعوه، ويكفيهم ما حققوه من مكاسب، نقول لهم إن الاستثمار لا يعنى تحصيل رأس المال، ولكن تحقيق مكاسب تزداد مع مرور الأيام، وإلا احتفظ كل شخص بأمواله، وأحجم عن الاستثمار، ثم بأى حق يستولى المستأجر على أملاك غيره!
وختاما، أكرر أن دفاعى عن هذه الفئة من منطلق الموضوعية والإحساس بآلام الآخرين دون البحث عن مصلحة شخصية، وأننى لست من ملاك الشقق القديمة، فإن أدواتى المهنية كباحث أكاديمى هى الحياد والموضوعية والبحث عن الحقيقة.