لا يوجد تقديم لهذه المداخلة أفضل من التذكير بأنه فى عام 1978، قبل انفجار الثورة الإسلامية الإيرانية ضد الشَّاه، وإبَّان المناقشات التى كانت تجرى فى واشنطن حول إرهاصات الثورة والموقف الأمرىكى من نظام الشاه ومما هو قادم أثناء هذه المناقشات عبر أحد مستشارى الرئيس الأمريكى السابق جيمى كارتر، جيمس بيل، عن شعوره «بأن حركة دينية تصعد إلى السلطة بمساعدة من أمريكا ستكون صديقا طبيعيا للولايات المتحدة الأمريكية».
ما أشبه اليوم بالبارحة. فالولايات المتحدة الأمريكية، ونظامها السياسى أكثر الأنظمة ممارسة للانتهازية، ستفعل الأمر نفسه مع موجات الربيع العربى، أيَّاَ كان شكلها، لتجعل مفجِّرى ثورات ذلك الربيع وكلَ المستفيدين منها أصدقاء طبيعيون لها، أى حلفاء يخدمون مصالحها وسياساتها.
هذا أوَّل وأهمُّ جانب سيحتاج أن يحسم فى السياسة الخارجية لأنظمة مابعد الثورات، وعلى الأخص من قبل دولة كبيرة قادرة على التأثير والقيادة فى محيط أمَتها العربية كجمهورية مصر العربية. ذلك أن الوجود الأمريكى فى الحياة العربية بكل أبعادها أصبح مشكلة كبرى بالغة التعقيد والتأثير والتهديد. ذلك التواجد أصبح كالأخطبوط الذى تمتدُّ أصابعه لا إلى الحياة السياسية فقط وإنَّما لتلامس الحياة الاقتصادية والعسكرية والأمنيَّة الداخليَّة والثقافية على المستوى الحكومى ومستوى مؤسسات المجتمع المدنى.
تشابك امتدادات هذا الأخطبوط الإمبريالى ستحتاج إلى من يفكِّكُها واحدة تلو الأخرى بكثير من الحذر والحزم والاستمرارية. وهذا قدر مصر التاريخى، وهى التى ساهم نظامها السياسى السابق، مع بعض الأنظمة العربية «المعتدلة» اللاوطنية، اللاَّقومية، فى السَّماح لهذا الأخطبوط أن يمتدَّ ويتجذَّر وهو قدر حملته مصر بصبر وثبات ضدَّ كل أنواع الغزاة للأرض العربية عبر الكثير من القرون.
لنذكِّر أنفسنا بأن الولايات المتحدة الأمريكية كانت ولا تزال ضدَّ كل مشروع عربى توحيدى، بل هى مع كل مشروع تفتيتى على مستوى الأقطار العربية، وأنها حليف استراتيجى إلى حد الهوس للوجود الصهيونى فى فلسطين المحتلَّة ولهيمنته العسكرية وقوَّته الذريَّة ولتجنيبه أية مساءلة دولية عن الجرائم التى يرتكبها تجاه شعب فلسطين ومن يسانده، وأنَّها دمَّرت القطر العربى العراقى وأوصلته حافة الشَّلل المدنى والانهيار الوجودى، وأنَّها تمعن قتلا واستباحة فى دولتى افغانستان وباكستان الإسلاميتين، وأنها ساندت ولا تزال تساند أنظمة غير ديمقراطية فى كل الأرض العربية.
نحن أمام مشهد مرعب. لكن ليس المطلوب من مصر أن تواجهه لوحدها ولا حتى أن تقوم بما فعلته فى خمسينيات وستِّينيات القرن الماضى عندما حملت كلَّ أعباء الأمة العربية على كتفها وعلى حساب تنميتها وقوت شعبها. المطلوب هو أن ترفض أن تكون أداة من أدوات الهيمنة الأمريكية، كما فعل نظامها السابق. ورفض الهيمنة لا يعنى الدخول فى حروب غير متكافئة ولا ممارسة الألعاب الكارثية ولا إنكار حقائق الواقع بطفولية.
رفض الهيمنة هو أن تسعى مصر إلى إقناع وحشد وقيادة قوى رسمية ومدنية كثيرة نحو الاقتراب من تحقيق اهداف هذه الأمة فى الاستقلال الوطنى والقومى، فى تنمية عربية مشتركة، فى التوجه نحو كل أنواع التفاهم والتعاضد والتنسيق والتوحيد الممكن فى كل حقول الحياة، فى بناء قدرات العرب المشتركة ضدَّ الهيمنة الإمبريالية الصهيونية وتغلغلها، إن لم يكن وجودها، فى الحياة العربية.
ماا لذى سيعنيه كل ذلك فى أرض الواقع الحالى؟ هناك أولا قضية العرب الكبرى، قضية فلسطين. لقد ضحَّت مصر بالغالى والنَّفيس لأنها تعاملت معها كقضية قومية، كصراع بين العروبة والإسلام من جهة وبين الصهيونية الامبريالية الاستيطانية من جهة أخرى. لكنها أصبحت اليوم قضية علاقات متباينة بين الكيان الصهيونى وبين هذا القطر العربى او ذاك. إن مصر ستخدم نفسها وأمَّتها لو سعت لإعادة القضية نحو وجهتها السَّابقة الصحيحة، رفض لكل ما هو امبريالى عنصرى وقبول لكل ما هو إنسانى حقوقى. بل مطلوب أن تجعلها أيضا قضية إسلامية وقضية تحرُّر إنسانى ضدَّ حركة استعمارية عنصريَّة خارجة على كل الأعراف الحضارية وحقوق الإنسان. إن مكانة مصر فى محيطها العربى والإسلامى والأفريقى وفى ساحات العالم الثالث تمكِّنها من الإقناع والـتأثير.
هناك ثانيا موضوع الصٍّراع المذهبى المفتعل بين السنَّة والشيعة الذى يراد له أن يكون على حساب القضية الأولى، قضية فلسطين. إن مصر الأزهر تستطيع أن تعيد المنطقة إلى الإسلام الموحٍّد بدلا من الإسلام المجزِّئ الطائفى. إنها بذلك ستطفئ النيران التى تشعلها أمريكا وحليفتها الصهيونية وبعض حلفائها من العرب الذين لا يتعاملون مع هذا الموضوع بهدوء ورويَّة ويدخلون أمتهم، نرجو أن يكون بدون قصد، فى لعبة عبثية تخدم المصالح الإمبريالية ــ الصهيونية، وتضرُّ بأمتى العروبة والإسلام.
هناك ثالثا موضوع المواقف المبدئية والعملية من ثورات الربيع العربى. إن مصر الثورة المبهرة ضدَّ الاستبداد لا يمكن إلا أن تكون مبدئيا مع كل حراك عربى جماهيرى ضدَّ الديكتاتوريات. لكن مصر الحاملة للواء الوحدة العربية منذ الخمسينيات من القرن الماضى يجب أن ترفض جرَها من قبل بعض مجانين الطائفية أو الموالاة لأمريكا للقبول بأن يكون ثمن الثورات تجزأة وتفكيك أى قطر عربى أو إشعال الفتن الطائفية أو العنصرية فى تلك الأقطار.
إن بعض الحراكات العربية الشرعية قد دُفعت بالمال والسلاح لأن تكون عششاَ للثعابين، بحيث ستحتاج مصر ألا تسمح بأن تلدغ من قبل ثعابين التطرف أو الذين اشتراهم مال هذه الدولة أو تلك.
هناك رابعا موضوع الأدوات المطلوبة لتحقيق الأهداف التى ذكرنا. إن وزن مصر الكبير يجب أن يوضع لإجراء إصلاحات جذرية فى طريقة وفاعلية عمل المنظمات العربية والإسلامية المشتركة من مثل الجامعة العربية أو منظمة الدول الإسلامية أو تجمُّع دول عدم الانحياز، بل وحتى منظمات فرعية من مثل منظمتى أليكسو وإيسيسكو المعنيتين بالتربية والعلوم والثقافة على سبيل المثال فقط. إن مصر تدرك أن الكثير من تلك المنظمات والتجمعات قد هرمت وضعفت وأن بعضا منها قد أصبح فى يد من لديهم المال الوفير وهم يمارسون ألعاب الإبتزاز ولى الأذرع لتسير فى ركب سياساتهم المليئة بالثَّغرات المضرَّة بالأوطان المتناقضة مع روح الحداثة والعصر.
هناك خامسا موضوع دول المستقبل الصاعدة من مثل الصين والهند والبرازيل وروسيا. إن مصر تستطيع أن تبدأ مسيرة وجود تلك الدول الاقتصادى والسياسى المعقول من أجل موازنة الهيمنة الغربية الكاسحة فى أرض العرب. نحن لا نتكلم عن حرب باردة، لكننا نتكلم عن استقلال قومى ووطنى يراعى المصالح العربية ويخرج منطقتنا من الشعور المذلِّ بأن ظلام الوجود الاستعمارى الغربى هو قدر العرب إلى أبد الآبدين. وعندما نقول التواجد لهولاء فاننا لا نعنى مشاريع استثمارية هنا أو هناك وإنما تواجد يجعل الغرب يحسب له ألف حساب فى ساحات التهديدات والابتزاز من قبل بعض دول الغرب.
هناك سادسا قضية الفرصة التاريخية لحقبة البترول العربى. إن بترول دول مجلس التعاون الخليجى لوحده سيدرُّ فائضا ماليا يقدّر بتسع تريليونات من الدولارات خلال العشر سنوات القادمة. ومع الأسف الشديد فان قسما كبيرا من ذلك سيستثمر خارج الوطن العربى أو يضيع فى اقتصاد المضاربات والمظاهر فى الكثير من أقطار العرب. السؤال :هل تستطيع مصر أن تقنع الآخرين بإيجاد صيغة اقتصادية بحتة تعاونية مستقرة غير متأرجحة مع رياح السياسة وعواصفها للإستفادة العربية من هذه الحقبة البترولية، وهى فرصة تاريخية لن تعود، إن ضيّعها العرب؟ إن جزءا من تلك الصِّيغة الانتباه لموضوع حجم العمالة غير العربية فى دول مجلس التعاون والتى ستهدد عروبة منطقة الخليج إن لم يجر استبدالها، حسب أسس موضوعية اقتصادية، بعمالة عربية لن تكون إلا فى صالح المرسلين والمتلقين.
موضوع ضياع أو الاستفادة من حقبة البترول لا يخص فقط دول البترول. إنه قضية قومية، إذ من خلاله يمكن لهذه الأمة أن تحلِّ الكثير من مشاكلها المستعصيه.
هناك سابعاَ وأخيرا موضوع الإهمال العربى للوجود الفعَّال فى الساحتين الأفريقية والإسلامية. إن غياب العرب فى ساحاتهم وغيابهم عن ساحاتنا أصبح فضيحة من فضائح قصر النَّظر العربى وعجز أنظمته السياسية. ولاحاجة لقول كلمة أخرى فى موضوع تعتبر مصر من أعرف الملمٍّين به ومن أكثرهم قدرة على إعادة الزَخم الذى أوجدته مصر الناصرية فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى.
تلك كانت أمثلة وليست بقائمة جامعة، وهى طويلة. مصر مابعد الثورة لا تحتاج إلا أن تستعيد ألق وعبقرية وشجاعة بدايات ثورتها الحالية وثوراتها العظيمة السابقة عبر أكثر من قرنين لتدرك أن قدرها أن تكون الجزء الملهم فى قلب وعقل وروح أمَّتها العربية.