عاب علىَّ فى الأسبوع الماضى بعض الإخوة القرّاء الانشغال بموضوع فكرى سياسى يتعلق بأهمية تواجد الأيديولوجيات، وعلى الأخص الأيديولوجية القومية العروبية، فى الحياة السياسية العربية، وأشار البعض تحديدًا إلى أهمية التركيز حاليًا على الموضوع الفلسطينى وبالأخص المذبحة الهولوكوستيّة الإجرامية التى يمارسها الجيش الصهيونى ضد شعب غزة المنكوب.
فى رأيى يجب أن نحذر من الوقوع فى مطبّ خطّط له تحالف الاستعمار الغربى ــ الصهيونى منذ خمسة عقود، أى منذ بدء تراجعات ونكبات المدّ القومى العروبى. فمنذ ذلك الوقت وهذا التحالف يسعى إلى إضعاف الذاكرة العروبية الجامعة من خلال إشغالنا الدائم بأعراض الأمراض التى أصابت الجسم العربى منذ سبعينيات القرن الماضى.
فما أن انتهينا من الانشغال بعبثية الحرب العراقية ــ الإيرانية حتى انتقلنا للانشغال ببلادة قرار قيادة نظام الحكم السابق فى العراق بغزو الكويت واحتلاله وتعقيدات تحريره، لننتقل فى الحال إلى محاصرة العراق العزيز وموت مئات الألوف من شعبه وتهجير الملايين منهم وتأليف الأكاذيب الأمريكية – البريطانية لتبرير غزوه وتدمير قدراته السياسية والاقتصادية والعسكرية وإدخاله فى دوامة الطائفية ومشاريع تقسيمه، لننتقل بعد ذلك بالانشغال بمؤامرات وتعقيدات إفشال كل حراكات الربيع العربى والتى لا نزال نعيش تبعات بعضها إلى يومنا، لننتقل إلى مأساة ما يجرى فى ليبيا والسودان واليمن، لنصل إلى الوضع المرعب الذى يعيشه ضحايا الجرائم الصهيونية فى غزة، وأخيرًا لنشاهد ما يجرى فى لبنان وسوريا فنبكى حزنًا عليهما.
كل ما ذكرنا، وما لم نذكر، لعبت قوى الاستعمار الغربى، وعلى الأخص الأمريكى، وقوى الصهيونية العالمية فى تفجيره أو تأجيجه أو استغلاله حتى يبقى المشهد العربى مليئًا بالمآسى والصراعات والمؤامرات والضعف والتشرذم، لانشغال الأمة كلها بمحاولة حلها الواحدة تلو الأخرى.
فى قلب الأهداف من وراء كل تلك المشاهد المتتالية دون توقف يقبع هدف مركزى خبيث: هو إشغال الأمة بالتعامل مع عوارض مرض ينتشر رويدًا فى أجزاء الوطن العربى كله تحت مسّميات مختلفة وأقنعة متباينة حتى ينشغل ذهن الأمة بالتعامل مع العوارض حتى لا يركز على تشخيص وتسمية المرض، وبالتالى تهيئة سبل علاجه بصورة جذرية شفائية.
وحتى لا تقرأ الأمة الترابط فيما بين ما حدث ويحدث قراءة فكرية سياسية تحليلية صحيحة كان لا بد من إيقاظ كل أنواع الفتن الطائفية والقبلية والعشائرية واللغوية والجهوية التى بثّت بشتى وسائل الإعلام المرئى والسّمعى المتطورة من قبل قوى الخارج وبعض قوى الداخل.
كان المهم ألا تعود الأمة قط إلى أية أيديولوجية استراتيجية توحّد أهدافها وإرادتها ومسالك نضالات شتى قواها. فكان أن أدخلت الأمة فى هوس محاربة ما سّمى بأمراض الأيديولوجيات، وعلى الأخص الأيديولوجية التى كادت بزخمها الجماهيرى الهائل فى خمسينيات القرن الماضى أن تطرد الاستعمار وتقضى على الحلم الصهيونى وتوجّه الأنظار نحو أهداف مجتمعية تغييرية إصلاحية عربية كبرى تهتف بها حناجر الملايين ليل نهار بقيادات جديدة واعدة.
كان لا بد لأعداء الأمة من منع، بأى صور ممكنة، العودة إلى أجواء الأيديولوجية القومية العروبية النهضوية الوحدوية المناهضة للاستعمار والصهيونية المتجهة نحو شعارات الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتنمية الشاملة والتجديد الحضارى، والاكتفاء دومًا بشعارات وحلول فرعية بشأن قضايا محدودة لا تمس الجذور ولا تشمل الأمة كلها ولا تواجه كل أعراض المرض الأساسى: مرض الاستعمار الخارجى بشعاراته العولمية الرأسمالية النيوليبرالية الجديدة من جهة ومرض العجز العربى المنهك المجزّأ الذى يعيش بعد السبعينيات من القرن الماضى فى فراغ فكرى أيديولوجى جماهيرى دائم.
وهذا ما يحتاج شباب الأمة وما تحتاج شاباتها إلى أن يعوه بعمق ويرفضوه بشدة ويدركوا أن المجتمعات لا يمكن أن تعيش وتنهض ولا أن تبنى نظامًا ديموقراطيًا عادلاً متوازنًا إلا من خلال تفاعلات وتنافس الأيديولوجيات لرسم مبادئ وأهداف ووسائل المجتمعات وبناء قوى المجتمعات النضالية المختلفة المؤمنة بهذه الأيديولوجية أو تلك.
هذه هى مسئوليات الجيل العربى الجديد وهذا قدرهم، وليس الثرثرة حول الحاجة أو عدم الحاجة بوجود أيديولوجيات تقود وتحرّك مجتمعاتهم نحو الأفضل والأقوى والأسمى. وهى المسئوليات التى يريد الاستعمار الغربى ــ الصهيونى منكم أن تنشغلوا عنها بمغريات الفردية المجنونة الأنانية.
ما تحتاجه القضية الفلسطينية ليس البكائيات والعطف وإنما جعل حلها حلا جذريًا وجزءًا من الحل العربى الشامل. وهذا يتطلب أيديولوجية تفكّر وترسم وتقود وتحقّق.