فى مقال الأسبوع الماضى طرحنا فكرة الأهمية القصوى لوجود قيم وسلوكيات فردية ومجتمعية لمنع إمكانية وصول مكونات المشروع النهضوى العربى الستة إلى التشويه والفشل فى مراحل التطبيق فى الواقع، كما حدث مرات عديدة فى العديد من أقطار الوطن العربى عبر العقود الماضية. وبيّنا أن ذلك سيتطلب وجود مراجعة تحليلية نقدية تجاوزية لكثير من قيم وسلوكيات التراث من جهة، ولكثير من القيم والسلوكيات التى تبنّاها أو قلّدها العرب من حضارة الغرب باسم الحداثة والتجديد من جهة أخرى.
فى قلب قيم وسلوكيات التراث موضوع التعامل مع مكانة القيم فى الدين الإسلامى، ذلك المكوّن المفصلى للثقافة العربية.
فالسؤال المطروح هو: لماذا لم يشدّد الفقه الإسلامى على الترابط الوثيق الضرورى بين شعائر التديّن الظاهرى الطقوسى، المعتبر أنها تمثل أركان الإسلام الخمسة من شهادتين وصلاة وصيام وزكاة وحج بيت الله، وبين ما جاء ذكره فى القرآن الكريم وفى الأحاديث النبوية المؤكدة الموثّقة من قيم مثل العدل والأمانة والعمل الصالح والصدق فى القول والتّراحم ومساعدة المحتاج وبرّ الوالدين، واستعمال العقل والمجادلة بالتى هى أحسن، وحتى حرية الضمير فى الاعتقاد والإيمان، وغيرها الكثير.
ولعل الربط القرآنى المتكرر بصورة مبهرة بين الإيمان والعمل الصالح (من آمن وعمل صالحًا) يلخّص كل ما نريد قوله عن أهمية هذا الجانب التراثى الدينى فى عملية تنقية الثقافة المجتمعية الجماهيرية من التلاعب بالقيم وممارسة السلوكيات المشينة المتأثرة عبر العصور بمماحكات القبلية والطائفية وألاعيب السياسة.
قد أوصلت الأهمية القصوى لهذا الموضوع بعض الكتّاب إلى المطالبة بدمج عيش القيم الكبرى والسلوكيات الاجتماعية المهمة التى جاء ذكرها فى القرآن كجزء مكمّل لأركان الإسلام الخمسة المعروفة. فالكاتب المصلح مالك بن نبى رأى أن تخلّف المجتمعات الإسلامية وقابليتها للاستعمار هو انفصال القيم الأخلاقية عن مظاهر التديّن الطقوسى، الأمر الذى يجعل الفرد والجماعات فى حالة لا مبالاة ولا التزام.
والفيلسوف الإيرانى عبدالكريم سروش اعتبر أن قراءة وفهم النصوص الدينية لا يكونان مفيدَين وفاعلين إلا إذا رافقهما ضمير أخلاقى حى وسامٍ ومتفاعل مع مصالح الآخرين.
ومن قبل هؤلاء طرح المصلح الشيخ محمد عبده مشروعه الإصلاحى، الذى من بين ما أكّد عليه أن من أهم أهداف الدين هو تحسين معيشة البشر وحل مشاكلهم، وليس دفعهم نحو الانغماس فى كثرة الطقوس الدينية الظاهرية.
لم يكن أحد من هؤلاء ضد ممارسة الشعائر الطقوسية الدينية بالطبع، وإنما كانوا يعنون القيام بها دون ربط وجودى إيمانى محكم بالقيم والسلوكيات الأخلاقية الإسلامية كما جاءت واضحة فى القرآن الكريم والأحاديث النبوية المؤكدة. فأن يقول النبى صلى الله عليه وسلم: «أقربكم منى مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا»، فهذا منتهى الوضوح لهذا الرباط، وهو ما يجب أن يُكرَّر باستمرار وبقوة فوق منابر المساجد وفى كل مؤسسة دينية وتعليمية وتثقيفية وإعلامية، حتى يرسخ فى الأذهان الارتباط الشديد بين التدين وممارسة الأخلاق الفردية والجمعية الرفيعة.
إذا ترسخ هذا الارتباط فى عقول ونفوس وأرواح الملايين من ساكنى الوطن العربى، وارتفعت ــ على الأخص ــ فى كياناتهم كبرى القيم والسلوكيات تلك، التى لا تفيد الفرد فقط وإنما أيضًا الجماعة والمجتمعات، وتذكّروا أهمية وجود ذلك الارتباط فى كل صلاة، وفى كل يوم صيام، وعند القيام بكل شعيرة أخرى، فعند ذاك ستصبح المجتمعات العربية والإسلامية عصيّة على الاستعمار، وعلى التخلّف، وعلى الهامشية التاريخية التى ارتضيناها لأنفسنا. ولكن بشرط: إنه شرط تطهير المجتمعات العربية، والفرد العربى أيضًا، مما قلّدوه وتبنّوه من عادات وأفكار جاءت مع الاستعمار من جهة، وزيّنها لنا ــ عن قصد أو غير قصد ــ بعضٌ منّا من جهة ثانية.
ولعل ما تقوم به بعض الأوساط الفكرية فى بلدان الغرب من مراجعة عميقة صادقة لحضارتهم، ومن محاولة جادّة ــ على الأخص ــ لبناء منظومة قيمية وسلوكية إنسانية أخلاقية تجديدية لإنسانهم ولمجتمعاتهم.. لعل ذلك سيساعدنا فى مهمتنا هذه، التى يجب أن نقوم بها لا كمناكفة ولا كمماثلة لتعصّبات الاستشراق التى جاءتنا من الغرب، وإنما كمحاولة للمساهمة فى بناء ذاتنا من جهة، والمساعدة فى إخراج العالم كله من المآزق القيمية والسلوكية التى يعيشها الآن من جهة أخرى.
موضوع مراجعة قيمنا وسلوكياتنا أصبح مدخلًا مهمًا فى محاولات الإصلاح والتجديد العربى.