كمال إمام.. وداعا - ناجح إبراهيم - بوابة الشروق
الجمعة 13 ديسمبر 2024 5:31 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

كمال إمام.. وداعا

نشر فى : الجمعة 16 أكتوبر 2020 - 9:50 م | آخر تحديث : الجمعة 16 أكتوبر 2020 - 9:50 م

نعاه شيخ الأزهر قائلا: «لم يدخر جهدا فى خدمة الإسلام والمسلمين، وترك إرثا كبيرا فى مجال الفقه الإسلامى، وفقدنا بموته عالما من أبرز علماء الشريعة فى العصر الحاضر، ومشددا على أن كتبه ومؤلفاته وخاصة فى مجال مقاصد الشريعة ستظل مقصدا لطلاب الدراسات الإسلامية حول العالم».
كما نعاه مجمع البحوث الإسلامية الذى يوازى هيئة كبار العلماء بكلمات مؤثرة ونعاه مفتى الديار المصرية د/شوقى علام مشددا على دوره فى تجديد الفكر الإسلامى وخدمة دار الإفتاء على مدى عقود وأن مؤلفاته فى مقاصد الشريعة والإفتاء والفقه وأصوله استفاد منها مئات الباحثين.
لم يكن د/إمام مجرد أستاذ جامعى ولا كبير المذيعين فى إذاعة القرآن، ولا مديرا لتحرير مجلة المسلم المعاصر لعشرين عاما كاملة، ولا عضوا فى مؤتمر القمة العالمى لحوار الأديان فى نيوريوك، ولا مؤلفا لأكبر موسوعة علمية فى مقاصد الشريعة، ولا شريكا أساسيا فى إخراج أقوى مجلة عالمية فى علم صعب وهى مجلة «الفقه المقارن»، ولا معدا أساسيا لمشروعات قوانين كثيرة فحسب.
إنه أكبر من ذلك كله فقد كان موسوعة علمية شاملة تمشى على الأرض فى تواضع الحكماء ودقة العلماء، لا تفاتحه فى علم من هذه العلوم الدقيقة إلا وجدت ينابيع العلم والحكمة والفكر الرصين تتدفق منه، فلا تعجب لأنه أفنى حياته كلها لله والعلم والدين والفقه والوطن.
وكان يردد دوما مقولته المأثورة: «الفقيه بحق عليه ألا يعرف مجتمعه فحسب، ولكن عليه أن يعرف عصره كله، وعليه أن يتعرف على الحضارة الإنسانية كلها بوجهيها الإيجابى والسلبى».
أما عن الخلطة السحرية التى كونت عقل د/كمال فقد امتزجت فيها جدية ورجولة الصعيدى وشهامته وصرامته، وبيئة إسنا مقر العلم والعلماء والقضاة والشجعان، مع تكوينه الأكاديمى الصارم بحثيا وعلميا، فضلا عن كونه ثالث ثلاثة كونوا النواة الأولى لإذاعة القرآن الكريم بعد أن تحولت من كابينة استماع تبث القرآن فقط إلى إذاعة كاملة سنة 1975 وكان معه العملاقان د/عبدالخالق عبدالوهاب والمرحوم عزت حرك، وكان كل منهم يتولى إدارة أنشأها من الصفر حتى القمة.
ومن خلال هذه الإذاعة الوليدة تعرف عالمنا على كل فقهاء وعلماء وشعراء مصر حيث قدمهم جميعا فى برامجه، وهذه الفترة أفادته معرفيا وعمليا، ونقلته من الأكاديمية البحتة التى تهم الخواص إلى اللغة الإنسانية الرقراقة التى تصل لكل شرائح المجتمع.
كانت برامجه «عيون التراث الإسلامى»، قادة الفكر الإسلامى «من فيض الإيمان» «ومأدبة الله» وغيرها تنقل صوته الصعيدى المعروف والمميز إلى المستمعين جامعا لهم بين «الأصالة والمعاصرة» والواجب الشرعى ممتزجا بالواقع العملى «رابطا بين «الدين والحياة»، مؤلفا «بين مقاصد الشريعة ومتطلبات الحياة».
كانت حواراته وإطلالاته الإذاعية غاية فى التميز تدعمها خبراته وعلمه ودكتوراه الحقوق التى يحملها، انتقل بعدها للتدريس فى قسم الشريعة بحقوق الإسكندرية العريقة حتى أصبح رئيسا للقسم.
حارب طوال حياته تطرفين، التطرف العلمانى الذى أراد إلغاء النص من الحياة، وأن الدنيا يمكن أن تستغنى عن هداية السماء وثانيها التطرف الإسلامى الذى يفصل النص عن الواقع، ويفصل الدين ونصوصه عن مقاصد الشريعة الكلية، أو يريد تنحية العقل حتى لو كان ذلك فى فهم النص والتأمل فى حكمته وكل ذلك دفعه للتخصص الدقيق فى علم المقاصد حتى صار يطلق عليه «أبو المقاصد الشرعية فى مصر» فهو مؤلف أقوى موسوعة علمية «فى مقاصد الشريعة» فى العالم، والتى ترجمت إلى العديد من اللغات.
العلماء الموسوعيون قلة ويتناقصون تدريجيا بالموت ليحل محلهم أناس رغبتهم فى المنصب والمال أكبر من متعتهم بالعلم، قلوبهم دائرة مع الدنيا فإن وجدت الدين فى الطريق فبها ونعمت، وإن افترقا اختارت الدنيا، يحبون قشور العلم ويكرهون التعمق فلا وقت لديهم للموسوعية التى غابت الآن فى معظم المجالات، لأن الموسوعية تحتاج إلى العالم صاحب الرسالة وليس الموظف الذى يهمه الترقى الوظيفى.
موسوعة المقاصد لأستاذنا المرحوم محمد كمال إمام تقع فى عشرة أجزاء وطبعت فى لندن وتسمى «الدليل الإرشادى لمقاصد الشريعة الإسلامية» وهى تدرس فى كل أكاديميات الفقه وأصوله فى العالم.
وعلم المقاصد من أشرف العلوم لأنه يمثل «روح النصوص» فالنص كالإنسان إذا فقد روحه وغابت عن الداعية أو الفقيه مقاصده لم ينجح لا فى فهم الدنيا ولا الدين، ولن يستطيع أحد الاستفادة من الفقه الإسلامى أو يطبقه فى الحياة العلمية دون فهمه لعلم المقاصد كما يردد دوما.
ويرى د/كمال إمام أن جزءا كبيرا من الخلل الذى أصاب الحركة الإسلامية فى مصر والعالم العربى نتج عن غياب علم المقاصد فى توجيه مسيرتها وتصرفاتها، فلو أنها أدركت فقط بندا واحدا من فقه المقاصد الشرعية «وهو حفظ النفس» ما وقعت فيما وقعت فيه من عنف وإراقة دماء أو صدام مسلح لم تجن من ورائه سوى الخسائر المتتالية لها وللدين وللوطن.
فالفقهاء قالوا «حفظ النفس» مطلقا، وليس حفظ النفس المسلمة، أو المؤمنة، أو التى تتبعنى دون سواها، ولكنه حفظ لكل الأنفس، نفس المسلم والمسيحى واليهودى والبوذى، وحفظ نفوس كل الجنسيات والأعراق والمذاهب.
ويعبر د/كمال عن ذلك بقوله: «قاعدة حفظ النفس مثلا فى المقاصد هى موجهة أساسا لمصالح الإنسان قبل الأديان» وهى تلزم الجميع حكاما ومحكومين بـ«حماية كل الأنفس بلا استثناء».
وتلحق بها القاعدة المقاصدية «حفظ المال» وهى تحمى مال الجميع بغير استثناء المسلم وغير المسلم، مال الفرد والدولة، مال السائح والمستثمر، وكذلك أموال خصومى فى الفكر أو الدين أو السياسة أو المذهب.
كما تمنع هذه القاعدة مصادرة أموال الغير بغير حق، وتمنع وحدها كل أشكال السرقة والنهب والنصب والغصب والمصادرة.
وكما يعير عالمنا المقاصدى «المقاصد تحمى الجميع وأحكامها تسرى على الجميع».
ويرى عالمنا «أن الحركة الإسلامية لو طبقت فقط قاعدة تحصيل أعلى المصلحتين بتفويت أدناهما، أو درء أعلى المفسدتين بقبول أدناهما، لأراحت واستراحت، وأغلقت على نفسها وغيرها أبوابا من الشرور لا يعلم مداها إلا الله، ولقبلت المتاح من الخير درءً للشر وتحصيلا للخير ولو أنها فعلت ذلك لما أغلقت الأبواب فى وجهها، وما سدت الآفاق أمامها وأمام غيرها ممن عوقب بجريرتها أو قاربها، وما وصلت إلى النفق المظلم الذى وصلت إليه».
قلت له: نعم، فقد كنا فى شبابنا لا نعلم عن هذه القواعد وأمثالها شيئا، وما كنا ندرى أن تطبيق قاعدة مقاصدية واحدة يمكن أن تنقذ مئات الأرواح من الموت أو السجن أو الصدام المروع.
فقال: «علم المقاصد يتحرك على الأرض فى كل شىء بدءًا من الفرد إلى الأسرة وصولا إلى الدولة والوطن، وقواعده تحمى الجميع وتسرى عليهم، وتسعدهم، وتحميهم من الآخرين وتحمى الآخرين منهم».
فحينما يطلق المقاصدى عبارة «حفظ العرض» فهو لا يحمى عرضك فقط من اعتداء الآخرين عليه ولكنه يحمى فى الوقت نفسه أعراض الآخرين منك، فالكل يستظل بالحماية والرعاية والأمان والسلام.
ويبدع عالمنا المقاصدى حينما يبسط الهدف من علم المقاصد بقوله: مقاصد الشريعة تعد بمثابة الروح العامة التى تؤدى إلى الربط بين الخير الذى يريده الله للناس والخير الذى يريده الناس لأنفسهم «وهذا يمثل أرقى ما وصل إليه الفكر السياسى العالمى الحديث الذى يهتم اليوم بـ«حماية الخير العام للناس جميعا».
خمسون رسالة ودكتوراه أشرف عليها فى مصر وغيرها، وحاضر مرارا فى هارفارد وغيرها من كبريات الجامعات العالمية، ورغم ذلك لم يحصل على التقديرية من وطنه التى حصل عليها بعض المزورين فى الأبحاث فى الأيام الخوالى، سلام على العلماء المخلصين، وحملة رسالات السماء والمبلغين عن الله والموقعين عن رب العالمين، ومنهم د.كمال إمام صاحب الفقه الأكبر فى الشريعة الإسلامية.

التعليقات