الخروج من العراق إلى أفغانستان - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 6:43 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الخروج من العراق إلى أفغانستان

نشر فى : الثلاثاء 17 فبراير 2009 - 3:40 م | آخر تحديث : الثلاثاء 17 فبراير 2009 - 3:40 م

 قالوا ويقولون تعالوا نتمنى لباراك أوباما النجاح، وتعالوا ننادي على المؤمنين في كل مكان أن يصلوا من أجله وآماله في التغيير. وأقول أتمنى له النجاح في كل خطة يكون هدفها استعادة حقوقنا واحترام استقلالنا وكبح جماح فساد الرأسمالية المتوحشة التي كادت تتسبب في هلاك أمريكا والعالم من ورائها.


كنا على حق عندما حذرنا في عالمنا الثالث من خطورة الانسياق وراء استعمار جديد يحط علينا في رداء العولمة، كنا ضحاياه منذ قرون عندما ارتدى رداء الاستكشافات الجغرافية ثم رداء رسالة الرجل الأبيض إلى الإنسان البدائي أو المتخلف ثم في رداء حرية التجارة، وجاءت النهاية في كل مرة كارثية إما بحروب استعمارية بين القوى الرأسمالية كما حدث في أنحاء شتى من آسيا وأفريقيا ثم في أوروبا أو بسقوط إمبراطوريات كما وقع لأسبانيا والبرتغال وهولندة وروسيا وفرنسا وبريطانيا العظمى، ويكاد يقع الآن للولايات المتحدة وإما بإبادة شعوب بأكملها كما حدث في الأمريكتين أو بإذلال أمم عظيمة كما حدث في الصين والهند وعالم العرب.


يرث أوباما تركة ثقيلة كل مفرداتها تقريباً تعكس مؤشرات حالة نهاية لمرحلة من مراحل العولمة. أكثر هذه المفردات وردت نصاً أو روحاً أو كلاهما في خطبة أو أخرى من خطاباته بدءا بخطابه الشهير في عام 2004 في مؤتمر الحزب الديمقراطي وانتهاء بخطاب التنصيب في مطلع 2009 ومروراً بخطاب دنفر الأشهر في 2008 الذي وافق فيه على ترشيح مؤتمر الحزب الديموقراطي له رئيساً قادماً للولايات المتحدة.

فمن ناحية تحدث أوباما أكثر من مرة عن ضرورة تغيير الشخصية الأمريكية، وهى عبارة معناها وقف انهيار منظومة القيم والأخلاق في الولايات المتحدة، وهى المنظومة التي تلقت ضربات عنيفة أثناء صعود موجة العولمة الأخيرة خلال العقود الثلاثة الفائتة. ومن ناحية ثانية تحدث أوباما عن إصلاح الخلل في المنظومة المالية والاقتصادية، وهى عبارة معناها وقف "سقوط الرأسمالية" كعقيدة اقتصادية واجتماعية بعد أن اتضحت سلبيات الاعتماد على آليات السوق لحل جميع مشكلات البشر والسلبيات المدمرة لمبدأ إخضاع "الدولة" لخدمة هذه الآليات. ومن ناحية ثالثة تحدث أوباما عن تحقيق السلام في أفغانستان عن طريق زيادة القوة العسكرية الأمريكية العاملة فيها. صحيح أنه لم يتحدث عن حرب حتى النصر كما كان يفعل بوش وانما تحدث عن حرب حتى السلام.

هنا أيضاً للعبارة معنى آخر، وهو أن الخروج من العراق لن يكون في اتجاه العودة إلى أمريكا ولا يعني تلقائياً بداية الانسحاب العسكري الأمريكي من الخارج، إنما يعني أن الخروج العسكري من العراق هو في واقع الامر خروج من موقع في الخارج إلى موقع آخر في الخارج أيضاً، وأن المؤسسة العسكرية الأمريكية مازالت، وربما ستبقى، صاحبة القرار في تحديد أهداف الأمن القومي الأمريكي. وعلى كل حال لم يكن هناك شك في هذا الأمر منذ بدأت الاتصالات بين أوباما، حتى قبل ترشيحه، والمؤسسة العسكرية ثم حين بدأ يعالج الأزمة المالية مستثنياً هياكل الإنفاق العسكري مثل شركات تصنيع الاسلحة ومديروها ورؤساؤها وعملاؤها في البنتاجون والسلطة التشريعية.


هل خدع أوباما الناخب الأمريكي، وأهم منه هذه المرة، الناخب في كافة أنحاء العالم الذي انضم إلى جحافل أسعدها ترشيح أوباما وفوزه؟ اعتقادي أنها ليست خديعة بقدر ما هى ممارسة "براجماتية" أو درجة عالية من واقعية شديدة تقر بأن لا أحد مهما بلغ قدره ومكانته في قيادة منظومة الحكم في أمريكا يريد الحد من نفوذها في العالم أو يجرؤ على التفكير فيه. فإنه إذا كان استمرار النفوذ يستدعي شن حرب في الخارج ولا يستقيم بغيرها فلتكن الحرب، وإذا كان النفوذ بالحرب وحدها عالي التكلفة فلتنشط الدبلوماسية الأمريكية وغيرها من مظاهر القوة غير الملموسة ولكن في كل الاحوال لن تكون بديلا. وأظن أن هذا التصور للسياسة الأمريكية الجديدة هو الذي يسود في البيت الأبيض وكافة قيادات الأمن القومي الأمريكي في حكومة باراك أوباما. وعلى أساس هذا التصور يمكن فهم الخروج من العراق إلى أفغانستان وليس الخروج من العراق وأفغانستان معاً ومن غيرهما في العالم العربي وأفريقيا وأوروبا والعودة إلى الولايات المتحدة.



ومع ذلك، احترم الرأي الذي يقول أن أوباما في الحقيقة يريد الخروج من العراق وغيرها والاعتماد على تنشيط العمل الدبلوماسي بكافة أشكاله مثل إقامة التحالفات وإعادة تدوير القائم منها وزيادة المنح التعليمية والمعونات الفنية والاقتصادية وتحسين صورة العالم عن أمريكا وأخلاقها وسلوكياتها، وأن أوباما يفضل كذلك الاعتماد على كفاءة القيادة الأمريكية للاقتصاد العالمي بعد إصلاح الخلل الناشب حالياً. وأستطيع أن أجد في خطاب جون بايدين نائب الرئيس الأمريكي أمام مؤتمر الأمن الذي عقد في ميونيخ فـي بداية هذا الأسبوع، ما يكفي لإثبات حجج أصحاب هذا الرأي

فقد كان بايدين واضحاً في أهمية دور الدبلوماسـية فـي التعامل مع إيران محبطاً آمال الكثيرين في البنتاجون وجماعة الضغط اليهودي وبعض جماعات الضغط العربي في واشنطن. يقول المطمئنون إلى أوباما والواثقون فيه، أن الخروج من العراق إلى أفغانستان إجراء شكلي ولا يعني بالضرورة الاستمرار في الحرب "الدائمة" ضد أفغانستان، وأننا سنرى قريباً تسويات في جنوب آسيا وإيران تؤدي إلى تهدئة في أفغانستان ومفاوضات مباشرة بين الولايات المتحدة وطالبان، ويعقبها ربما تنحية "الرئيس – العقبة" حميد قرضاي عن منصب الرئاسة وإقامة تحالفات سياسية جديدة أو دعم فئات ومذاهب على حساب فئات ومذاهب أخرى، هذه وغيرها ستكون إحدى المهام التي سيسعى المبعوث الأمريكي هولبروك لتنفيذها، وأظن أنه خطا بالفعل خطواته الأولى نحو التنفيذ في اجتماعات مع قادة الأمن والمؤسسات العسكرية الأوروبية عقدها في ميونيخ قبل أن يتوجه إلى المنطقة.


سمعت أحد الخبراء الروس يقول أن القادة العسكريين الأمريكيين لم يدرسوا بعد تفاصيل الحروب التي دارت في أفغانستان على امتداد القرون وبخاصة القرنين الأخيرين. هؤلاء القادة لا يعرفون أن وحل أفغانستان أشد كثافة وعمقاً من وحل العراق الذي غرست فيه جيوش أمريكا وأموالها ستة أعوام. وسمعت محللاً أمريكياً يعرب عن اقتناعه أن الثقافة السياسية لشعوب البلقان تختلف جذريا عن ثقافة الباشتون وغيرهم من شعوب أفغانستان وباكستان وغيرها من شعوب وسط آسيا، لقد اعتمد نجاح هولبروك في البلقان على مزيج من درجة قصوى من العنف المسلح من جانب الولايات المتحدة وشركاء أوروبيين وضغوط سياسية شديدة ومساومات مع روسيا، وكلها أدوات قد لا تجدي نفعاً في هذه المنطقة من آسيا، فقد سبق أن جربها البريطانيون من قبل وخرجوا منكسرين، وهاهم ينسحبون جزئيا وبخاصة من مناطق مرشحة لاعمال حربية بشعة ووحشية ليحل الأمريكيون محلهم.

قراءتي لتاريخ الأفغان ومعرفتي بجغرافية المكان ودرايتي بتوازنات القوة الدولية تلح لكي أسجل رأيا متسرعا. أثق أن مصير الأمريكيين في أفغانستان في وجود باراك أوباما أو غيره لن يكون أفضل من مصير البريطانيين وقد يكون أسوأ من مصير السوفييت. و أسجل في الوقت نفسه اعتقادا بأن صدامًا هادئًا واقع لا محالة في القريب العاجل حول دور العسكر في المرحلة القادمة.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي