ذكرى الجنود الإسرائيليين القتلى، التى حلّت يوم 13 من مايو، ليست ذكرى عادية، ولا عيد قيام دولة إسرائيل هو عيد عادى هذا العام. عادةً ما يتمثل الهدف من وراء إطلاق الصافرات فى هذين اليومين فى تذكيرنا بالحزن الشديد الذى نحاول إلقاءه جانبا فى حياتنا اليومية. أمّا هذه السنة، فمَن منا قادر على وضع الألم جانبا، ولو لثانية؟ ومَن منا قادر على عدم التفكير فى نحو ألفى عائلة تعيش فى دائرة الحداد؛ فى جنودنا الذين يخاطرون بحياتهم فى هذه اللحظات فى المعارك فى غزة والشمال؛ فى المخطوفين الـ 132 الذين لا يزالون فى قبضة «حماس». هذه الصافرات التى نسمعها اليوم، تنطلق بصورة مستمرة منذ تاريخ السابع من أكتوبر، ولا يمكن إخفاؤها.
ينبغى للحقيقة أن تقال: الحكومة الإسرائيلية شريكة فى الشعور بانعدام اليقين والعجز اللذين نشعر بهما. هذه الحكومة التى لم تضع منذ البداية مسألة استعادة المخطوفين من ضمن أهداف الحرب، ولم تغيّر موقفها إلّا فى أعقاب الضغط الشعبى، تتصرف بغموض مقصود، وهى تفضل ترجيح الاعتبارات السياسية الداخلية الضيقة على انتهاج الشجاعة أمام العالم، وعلى حساب التزامها تجاه المواطنين والجنود الذين تركتهم لمصائرهم.
الجمهور الإسرائيلى لا يعرف ما الذى يحدث
ما يثير تساؤلات كبرى هو إخفاء الحكومة المتعمد للواقع عن مواطنى إسرائيل. حتى هذه اللحظة التى يوجد فيها جنودنا فى رفح، فإن معلوماتنا عن المفاوضات تأتى من التسريبات والإشاعات. هل نعرف ما هى مطالب «حماس»؟ وهل نعرف ما هو موقف إسرائيل منها؟ هذا أمر من الصعب تحمُّله، لكن يمكننا أن نعلم، من خلال الإخفاء المتواصل للمعلومات، بأن الحرب النفسية التى تمارسها حكومة نتنياهو لا تستهدف «حماس»، بل تستهدف مواطنى إسرائيل.
سبعة أشهر، طُرحت خلالها على طاولة المفاوضات سلسلة من الصفقات، ثم تم إلغاؤها. ماذا تضمنت؟ علامَ كان الخلاف؟ نحن لم نتلقّ قط معلومات شفافة. كل ما تلقيناه كان تسريبات بشأن ما قاله «مصدر مسئول»، ما هو إلا كناية عن رئيس الحكومة الذى يختبئ خلف المصادر، خوفا من وقوفه أمام الجمهور. أو ما صرّح به أعضاء مسئولون فى طاقم المفاوضات، أصيبوا بالقنوط فى مرحلة ما، نتيجة التأجيلات التى يفرضها عليهم نتنياهو، فاستقالوا، وأخبروا الشعب بما جرى فى المفاوضات، بعد إخفاء تفاصيل وجوههم. نحن نعرف أنه لاحت فى شهر أكتوبر فرصة لصفقة تضمن إطلاق سراح الأطفال والنساء، رفضتها الحكومة: وفى نهاية المطاف، عادت لتقبل الصفقة نفسها بعد شهر. لم تتم محاسبة أحد على اتخاذ القرارات التى أدت إلى تعريض حياة الأطفال للخطر خلال شهر إضافى كامل فى الأسر. أمّا الشهادات الواردة من غرف المفاوضات، فنسمع منها أن إسرائيل لم تأبه لاقتراح مبادرات خلاقّة، أو تخصيص جداول زمنية لحركة «حماس»، بل بدلاً من ذلك، ظلت هذه الحكومة متشبثة بالسلبية.
من الواضح أن المفاوضات مع «حماس» معقدة، وأن الحركة تستخدم المخطوفين كورقة مساومة، وتحاول استغلال أى فرصة لرفع أثمان الصفقة. من الواضح أيضا أنه لا يجب نشر كل ما يجرى فى غرفة المفاوضات على الملأ. لكن مرّت سبعة أشهر أخفقت فيها الحكومة فى مهمة استعادة المخطوفين. إن سلوكها السرّى والماكر فى التعامل مع العائلات ليس تكتيكا فى المفاوضات، بل هو تهرُّب من المسئولية. فلو كان الشعب يعرف ما الذى جرى حتى الآن فى المفاوضات، وما هى المقترحات التى كانت مطروحة، لكانت الصفقة ووقف إطلاق النار قريبَين، ومعهما الانتخابات، والحاجة إلى تحمُّل المسئولية عن الإخفاق الذى جرى.
لذلك، تستمر الحكومة فى إخفاء الظروف التى أدت إلى تفجير صفقة التبادل فى 1 ديسمبر، والذى حالَ دون إطلاق سراح عدد من المخطوفات كان يمكن أن يكنّ فى منازلهن، فى مقابل عدد قليل من السجناء غير المتهمين «بقتل» اليهود. يمكن للمرء أن ينفجر من مجرد التفكير فى أن بعض هؤلاء النسوة، ربما لم يعدن على قيد الحياة.
لا يمكن مناقشة سياسة من دون التعمّق فى فهمها
تخفى الحكومة عنا ملابسات انهيار مفاوضات الصفقة اللاحقة التى كان من المفترض أن تُعقد فى الشتاء. وبسبب إخفاء المعلومات هذا، أصبحنا نستقى المعلومات المتعلقة بها من التسريبات حصرا، والتى تفيد بأن الحكومة رفضت التوصل إلى صفقة فى مقابل وقف إطلاق النار (لا إنهاء الحرب)، بمعنى: وفق الشروط نفسها التى أصبحنا نحلم بالتوصل إليها الآن. إذا صحّت هذه المعلومات، فإن التسيب والإهمال كانا مقصودَين. فمن يجب عليه أن يتحمل المسئولية؟
إن الافتقار إلى الشفافية يساعد حملة نتنياهو أيضا بشأن تحقيق ظروف مريحة له أكثر بعد إتمام الصفقة. فهو يحاول إقناع الشعب بأن الصفقة تعنى أنه لن نتمكن من القيام بأى شىء ضد «حماس». وهذا كذب يصل إلى حد القصور العقلى. هل يصدق أحد أن «حماس»، التى يستند وجودها إلى «الإرهاب»، لن تخرق الشروط لاحقا بما يُلزم إسرائيل العمل بكامل قوتها؟ وهل إسرائيل، التى تمكنت من بناء أحد أقوى جيوش العالم، لن تتمكن من العثور على طريقة إبداعية لكى تواصل العمل فى مهمتها من أجل اجتثاث «حماس»، بعد أن يصبح المخطوفون فى منازلهم بأمان، وفى الوقت المريح لإسرائيل؟ إن الاجتثاث الكامل لحركة «حماس» يتعلق بتوصل إسرائيل إلى تسوية تتعلق بـ«اليوم التالى للحرب»، والتى تشمل إنشاء هيئة معتدلة قادرة على توفير الحلول المدنية الداخلية لسكان القطاع، محل «حماس». إن صفقة تقودها إسرائيل والولايات المتحدة، قد تكون محفزا على ذلك. وفى المقابل، إن رفض التوصل إلى صفقة لن يؤدى إلّا إلى موت المخطوفين والجنود.
إن إخفاء المعلومات بشأن صفقة التبادل ليس سوى جزء من الإهمال المستمر لسكان «غلاف غزة»، والذى بدأ قبل السابع من أكتوبر، واستمر خلالها، وليس سوى جزء من ثقافة غياب تحمُّل المسئولية عمّا أدى إلى الكارثة. فى يوم ذكرى القتلى هذا، نحن نطالب بالشفافية والحقيقة. هذا من حق مَن سقطوا، ومن حق مَن قُتلوا، ومن حق عائلات الأسرى، ومن حق جميع مواطنى إسرائيل.
ستاف شابير
سياسية إسرائيلية
قناة N12
مؤسسة الدراسات الفلسطينية