ترقب وقلق وإجماع غير مسبوق على المناشدة وطلب الدعم وتكثيف الرعاية للكاتب الكبير صنع الله إبراهيم، بعد تعرضه لأزمة صحية، وجاءت الاستجابة سريعة ومن أرفع مستويات الدولة المصرية ممثلة فى شخص الرئيس عبد الفتاح السيسى الذى بادر بالاطمئنان على صحة الكاتب الكبير والقدير ووجه بإيلاء كل سبل الرعاية والسلامة لمبدع مصرى وعربى ذى تاريخ كبير ومشرف.
قرابة الأسبوعين وحالة من الخوف والقلق والترقب تسيطر على كل محبى ومتابعى وقراء وعارفى قدر صنع الله إبراهيم عقب تعرضه لحادث سقوط نتج عنه كسور ومضاعفات خطيرة استدعت نقله إلى المستشفى وخضوعه للعناية المركزة وصولا إلى إجراء جراحة دقيقة لمعالجة مضاعفات هذه الكسور.
الشاهد فى الأمر؛ التفاف الجمهور العام حول محبة وتقدير الكاتب الكبير، المتابعة اليومية الدقيقة لحالته، الدعاء له بالصحة وطول العمر، التقدير الحقيقى لقيمة الكاتب، وما أنجزه طوال عمره ليس فقط من كتابة إبداعية وأعمال روائية وقصصية وأشكال كتابية أخرى، وإنما أيضًا فيما تجلى من مواقف وآراء اتفق حولها من اتفق، واختلف حولها من اختلف، لكن وفى النهاية ثمة إجماع على احترام صنع الله إبراهيم، وإكباره وتقديره.
تربطنى بالكاتب الكبير علاقة محبة ومودة واحترام؛ فأنا أولًا وأخيرًا واحد من قرائه المقدرين لأدبه والمعجبين بجديته ودأبه، ومن إخلاصه فى تأسيسه وصنعه لهذا المشروع الإبداعى الكبير والمهيب على مدى ثلاثة أرباع القرن تقريبا؛ كما أننى ممن حظوا بمعرفة وصداقة الكاتب الكبير فى العقدين الأخيرين.
منذ عشر سنوات، وبالتحديد فى يونيو من العام 2015 دعانى المركز الثقافى الفرنسى لقراءة مقاطع من روايتى صنع الله إبراهيم «برلين 69»، و«جليد»، (صدرتا عامى 2013، 2014 على التوالى) بمناسبة ظهور ترجمتهما الفرنسية عن دار «أكت سود» المعنية بترجمة الأدب العربى إلى الفرنسية.
المفاجأة الأكبر بالنسبة لى، كانت فى أن هذه القراءة ستكون بحضور صنع الله نفسه، والمترجم والباحث الفرنسى المرموق ريشار جاكمون صاحب الكتاب المهم «بين كَتَبَة وكُتّاب: الحقل الأدبى فى مصر المعاصرة»، وكان من المقرر أن تتم هذه القراءة على يومين؛ الأول فى الإسكندرية فى ضيافة المركز الفرنسى هناك، والثانى فى القاهرة، بمقر المعهد فى المنيرة.
يومان كاملان أمضيتهما بصحبة صنع الله إبراهيم، وجاكمون، كلاهما أعرفه جيدًا على الورق دون أن ألتقى بأى منهما ولا مرة، قرأت أكثر إنتاج صنع الله ووعيتُه، وقرأتُ كتاب ريشار جاكمون، وعندى حصيلة لا بأس بها عن مشروعه «السوسيولوجى» الضخم فى إطار علم اجتماع الثقافة لدراسة الحقل الأدبى المصرى.
وقد أتيح لى خلال هذين اليومين الجلوس إلى صنع الله إبراهيم والاستماع إليه، الخبرة المقطرة والتجربة الإنسانية الناضجة مجسدة فى صنع الله، واتساق المواقف والمبادئ والغايات مع الوسائل، بساطته ظاهرة وإحباطه أيضًا! ورغم ذلك فى لحظاتٍ خاطفة تلمع عيناه بومضة إذا سمع ما يجعله ينصت أو يصغى باهتمام، أثنى على قراءتى لنصوصه، قال لى «العربى بتاعك كويس أوى»!
المرتان اللتان انطلقنا فيهما فى أحاديث متشعبة، طالت التاريخ والفلسفة والاجتماع.. مساء على كورنيش الإسكندرية الجميل، وصباحًا على مائدة الإفطار بفندق «سيسيل» العريق، وفى المرتين تكشّف لى عمق واتساع ثقافته وإلمامه المذهل بالمراحل التاريخية المختلفة لمصر، قديمًا وحديثًا، رؤيته للعالم تحددت إلى حد كبير من قراءاته الماركسية، وعلم اجتماع المعرفة المنبثق عنها أو فى إطارها.. بحكمة ونضج رجل تجاوز الخامسة والسبعين آنذاك، كان يتحدث وهو مطمئن أن ما لديه قاله، والرهان على المستقبل!
صنع الله إبراهيم، وكما وصفه الكاتب الراحل علاء الديب «ظاهرة خاصة فى حياتنا الأدبية المعاصرة»؛ لأنه من أكثر الكتّاب إخلاصًا للكتابة، وتفرغًا لها، ومن أكثرهم «تجريبًا» بل أمانة فى التجريب، كما أنه من أكثرهم التزامًا بقضاياه الاجتماعية والفكرية فى وسط ما يعتمل فى الواقع الفنى والاجتماعى من دواماتٍ حقيقية وزائفة.
صنع الله إبراهيم، كاتب خاص جدًا، مركب ينحت فى الصخر. صخر الشكل الروائى، وصخر الواقع، ويتحدى بكل كلماته حدود التعبير وموانعه، يقول عنه علاء الديب «إنه يكتب بصعوبة شديدة ساحبًا فى يديه وقدميه قيودًا ثقيلة من المعارف والاعتبارات الاجتماعية، اعتبارات النشر والتعبير والذوق السائد، اعتبارات الرقابة والسياسة، فهو من القلائل الذين يكتبون بالعربية، دون أن يكون عندهم استعداد مسبق لمراعاة اعتبارات السوق».
ينتمى صنع الله إبراهيم؛ بحكم المولد والنشأة لجيل الستينيات، وقد اختط كل منهم طريقه وفق الرؤية التى تشبع بها، والقناعة الفكرية والجمالية التى كونها، منهم من اتخذ طريق استلهام التراث، والحفر عن جذور السرد العربى طريقًا لتشكيله، ومنهم من سعى بدأب لاكتشاف العناصر الجوهرية فى تراثنا الشعبى الفولكلورى لينطلق منه للبحث عن شكل روائى مغاير.
أما صنع الله إبراهيم، فكان من الكتاب القليلين الذين نجحوا فى إحداث قطيعة حاسمة مع التقنيات الواقعية السائدة آنذاك، بكسره عامدًا قواعد المنظور الروائى وتراتب أهمية التيمات والأحداث فى الرواية. وانفرد صنع الله، دون أبناء جيله بتكنيكٍ مميز..
(وللحديث بقية)