تمددت على سريرها منهكة الروح والجسد. الذكريات تهرول هاربة من أمام عينيها وأحيانا تقف مشاهد بعينها كنورٍ يتسلل إلى الوجدان، تكون أشبه بنافذة تفتح فى الدماغ، أناس تجمعوا فى لقطة محددة للوداع الأخير. قد تضطر إلى مغادرة هذا المنزل الذى شهد الجزء الأكبر من حياتها بعد شهور قليلة، إذا لم تنجح فى تدبير المبلغ المطلوب لدفع الإيجار وفقا لمشروع القانون الجديد، فالمادة الثانية التى أثارت ضجة كبيرة تنص على أن تدفع عشرين ضعف الأجرة المتفق عليها فى العقد القديم، بما أن شقتها تقع فى مكان يعد من الأحياء الراقية، إضافة إلى 15% زيادة سنوية. تقول لنفسها «الدنيا تأخذ كما تعطى»، ثم تمتمت بكلمات ترجو فيها الله أن يعجل بأجلها قبل مرور سبع سنوات أى مدة الفترة الانتقالية التى سيكون عليها بعدها التفاوض مع المالك مجددا، وهى على يقين أنها لن تستطيع البقاء فى بيتها. ظروفها لا تسمح ولا معاش زوجها.
تسترجع قائمة الخسارات التى نجحت فى التعامل معها كأمر واقع. مرت بمراحل عديدة قبل أن تصل إلى درجة من التصالح، من إنكار لغضب ومساومة واكتئاب ثم القبول بعدم وجود الأشياء والأماكن والأشخاص الذين شاركوها تجربتها بحلوها ومرها. تشعر أنها فى دوامة من الجنون وقد خلع الرعب قلبها فى هذه اللحظة المربكة. التجارب علمتها أنه لا يوجد جدول زمنى ثابت للتعامل مع الفقد، فالقدرة على تخطى الأزمات تختلف من إنسان إلى آخر. هى لا تحب كثيرا استخدام كلمة «التجاوز» لأنها تعلم فى قرارة نفسها أنها لم تتجاوز شيئا مما حدث وأفجعها، بل تعلمت أن تتعايش مع الحزن والإحساس بالفقد، وهو أصعب من الخسارة. عند وفاة زوجها، أقنعت نفسها أنه قد يمكنها الاستمتاع بأمور قليلة وبسيطة من دونه، بما أنه ما زال فى عمرها بقية ولديها بعض العافية.
• • •
هنا، على هذا الفراش، رحل زوجها. كان بلسم حياتها الذى طبطب على قلبها بعد سلسلة من العلاقات ما إن كانت أية واحدة منها تبدأ بالتبلور حتى تصاب بنكسة تدمرها من دون سبب واضح وصريح. تستحضر روحه وصورته وطوله الفارع ونظراته المهيبة وصوته الرخيم وابتسامته الآسرة. هذا التمثال القابع فى هدوء على الرف اشترياه معا من اليونان بالقرب من معبد أكروبوليس بأثينا، والقناع الخشبى الملون من إندونيسيا، والرسم المحفور على الزجاج من الهند رغم أنه يشبه كثيرا لوحات أبطال السيرة الهلالية وهو ما جذبهما إليه.. وحدات إضاءة اختلفا أحيانا حولها، ومناضد وكراسى كلها شهدت تفاصيل وزيارات ونقاشات ظلت حية فى رأسها، لم تغادرها قط. وجودها بهذا الشكل فى الأجواء التى اختاراها معا جعلها لا تشعر بالوحشة، فمن رحل لم يرحل بالكامل بالنسبة إليها، والبيت لم يكن أبدا مجرد سقف وأربعة جدران، بل إحساس دائم بالأمان سعى إليه الإنسان منذ بدء الخليقة. والآن على ما يبدو سيكون مطلوبا منها أن تتخلى عن الكثير مما عرفت، بما فى ذلك الحى وبائعو الخضراوات والفاكهة واللحوم الذين رأتهم يطورون محالهم ويكبرون ويبتسمون حين تطل عليهم من بعيد.
يخالجها الإحساس نفسه الذى سبق موت زوجها وفترة مرضه، حين أخبرها الأطباء أن الحالة ميئوس منها وظلت تحصى الأيام. خوف ووحدة وقلة حيلة وشعور بالذنب لأنها عاجزة عن أن تفعل شيئا لتنقذ الموقف. فى مثل هذه الظروف يكون الفقد استباقيا. نعيش مع التوقعات المؤلمة لأيام وربما لشهور وسنين دون أن نعلم متى سيسبق السيف العذل.
• • •
يلتهم الحزن قلبها فى صمت قبل أن تنهض من سريرها منتفضة. ماذا عن هؤلاء الذين فقدوا كل شىء فى غزة؟ حتى من بقوا منهم على قيد الحياة واستطاعوا الهروب من حرب الإبادة لم ينجوا تماما، قُتل من قُتل حولهم وماتت أجزاء من روحهم، ذهبت أدراج الرياح مع البيت الذى تهدم والأشياء التى دمرتها الانفجارات. سمعت بعض الناجين من النار يتحدثون عن إحساس الفقد الاستباقى الذى تشعر ببعضه الآن، أن تظل لأيام وليالٍ فى انتظار أن تسقط الفاجعة على رأسك ويتم طردك من مكان من المفترض أن يكون ملاذك الآمن. لكن لا شىء آمن فى هذا العالم، الناس فقدت أوطانها وأهلها وبيوتها وصحتها وأطرافها، نحن نعيش جميعا مواسم الفقد والخسارة، كلٌ على طريقته أو على مستويات متفاوتة.
تابعت برنامجا فى التليفزيون قبل فترة على إحدى القنوات الإخبارية، كانت المراسلة تسأل بعض الغزيين عن الليلة التى فقدوا فيها عائلاتهم أو بالأحرى كل شىء. قالت سيدة إنها تتمنى أن تستعيد لحظة واحدة من نفسها القديمة، وتحدث أحدهم عن معنى ضياع أشيائه التى كان يستخدمها فى حياته اليومية، لأنه صار حتى لا يستطيع استرجاع الذكريات من خلالها، لا أثر لمن رحلوا، بل تم مسح مرحلة كاملة من حياته بكل ما اشتملت عليه. لا أطلال لكى يبكى عليها. تساءل الناجون من الطوفان إذا كانوا سيتمكنون يوما من تخطى آلام الفقد والخسارة. خدعوك فقالوا إن الضربات التى لا تقتلك تجعلك أقوى، غالبا يستمر الشخص فى تحمل عبء ثقيل أينما ذهب طيلة حياته. وفى حالة الفلسطينيين تحديدا لا أحد يريد أن ينسى أو أن ينهى فترة الحداد.
تفكر صاحبتنا فى الشىء نفسه، هى لا تريد للماضى أن يمضى، ولا تريد أن يمر الموضوع دون محاسبة، مثلها مثل غيرها تلتمس عدالة من السماء. تفكر مليا فى مِحَن الآخرين وتخجل أحيانا من المشاعر التى تنتابها. تتخيل أن زوجها معها فى الغرفة وأنها تفقده مرة أخرى، تتنهد: كل ذلك الحب، كل تلك القسوة!