كانت هناك لحظة، أثناء تلك الأيام الثمانية عشر فى ٢٠١١، أدرك فيها جيلنا أن هناك جيلا جديدا قد حضر على الساحة، وتجاوزنا. وقلنا وقتها إن علينا فقط أن نسانده، وأن نترك له مجال العمل. كم ابتعدنا عن تلك الأيام! ولكن، وفى محاولة للبحث عن الإيجابيات فى المشهد اليوم، أعود إلى الشباب، وأفرد مقالى هذا الأسبوع لأعرض على قراء الشروق نموذجا من عمل فصيل من هذا الجيل الجديد ــ فصيل من الشباب، الذى اتخذ من مصر وثورتها دارا وقضية، وهو مؤهل ليتكلم عنها ويشرحها ويدافع عنها ــ بحكم ظروف مولده، أو نشأته، أو تعليمه ــ باللغات الأجنبية فى الساحات العالمية. وهو ينتمى إلى تلك الموجة المتنامية من الشباب فى العالم الذى يؤمن بأن ثورة مصر هى جزء محورى من ثورة تعتمل وتنضج فى العالم كله باحثة عن نظام جديد، أقل شراسة وأكثر عدلا، يتيح للإنسان إنسانيته، ويسمح له باكتشاف وتفعيل طاقات الخير والإبداع فى نفسه.
المقال الذى أترك المجال له اليوم، كتبه صاحبه بمناسبة نزول الإعلام الغربى علينا، مصرا على أن نمتثل لتصوراته عنّا، و«روشتاته» لنا، وقد جاء تعليقا بالتحديد على توجه جديد، عدائى، رآه الكاتب فى جريدة الجارديان البريطانية، تجاه أحداث مصر منذ ٣٠ يونيو، فكتبه بالإنجليزية، وعرضه على الجارديان من باب اللياقة، فرفضت نشره. نُشِر المقال ــ بالإنجليزية ــ فى موقع «مدى مصر» ــ وهو الموقع الجديد الذى أسسه مؤخرا الفريق الرائع من الصحفيين والكتاب الشباب، الذى وجد نفسه بلا منفذ إعلامى بعد إغلاق الإيجبت إندبندنت (والتى كانت تصدر عن المصرى اليوم). المقال «شَيَّرَه» إلى الآن ــ أى قرأه وأرسله من الموقع إلى مستقبِل جديد ــ أكثر من ألفين قارئ، فرأيت أن أترجمه إلى العربية لأبشر القارئ الذى ربما لا يعرف أننا الآن عندنا من الشباب ــ وأستطيع أن أحصى أكثر من عشرة أفخر بمعرفتهم معرفة شخصية ــ الموجودين فى قلب الثورة، والذين ــ إلى جانب ما يقومون به فى الشارع هنا ــ يجادلون ويحادثون المجتمع الغربى بمهنية وصدق وعمق تفكير خلقت لهم مصداقية وجمهورا ولمصر أعدادا جديدة من الأصدقاء الحقيقيين.
انتقاء الذكريات
لست من أنصار محمد مرسى ولا من أنصار القوات المسلحة، فالاصطفاف فى معسكر أى من الجانبين يعنى القبول بالنظم التراتبية الأبوية الرأسمالية المتكتمة العنيفة. إن الإخوان المسلمين والقوات المسلحة ليستا قطبين يرسمان حدود المجتمع المصرى؛ بل هما مؤسستان نخبويتان تتمتعان بشبكات داخلية، وعلاقات دولية، ومصالح مستترة، ومئات الآلاف من المجندين. ومع ذلك، يصر الإعلام العالمى على تقديمهما على أنهما البديلان، المتباينان، المتاحان لمصر.
قطاع عريض من المصريين استسلم مؤخرا إلى حالة من فقدان الذاكرة، فهلل للمدرعات التى لم يمر عامان على دهسها للمتظاهرين فى ماسبيرو. وقطاع آخر يلهب حماسته خطاب الشرعية والشهادة المتدفق من منصات الإخوان. إعلام الدولة يتفوق على نفسه فى الخطاب الطائفى، والإعلام المستقل يتبارى فى التودد إلى القوات المسلحة. وفى نفس الوقت نجد أجزاء من الإعلام الدولى، كان لها مصداقيتها، قد فقدت منظورها وبوصلتها.
جريدة «الجارديان» البريطانية، على سبيل المثال، كانت تفتخر بدورها كمصدر موثوق به للأخبار فى الأيام الثمانية عشر الأولى للثورة، حيث قامت فعلا بدور مهنى سليم وهام. لكنها، ومنذ نجاح الإخوان المسلمين فى الانتخابات، تتبنى خطا مربكا هو خليط من التبجيل لقيادات الإخوان مع عظات متعالية للمصريين تدور حول المصاعب التى لا بد منها للديمقراطية، والقدسية المطلقة لصندوق الانتخابات.
وقد عجبت للمساحة التى أعطتها الجارديان، فى صفحة الرأى يوم ٨ يوليو، ليحيى حامد، وزير الاستثمار فى حكومة الدكتور مرسى، الذى كتب أن «هدف مرسى الوحيد كان إرساء آليات مستقرة مستدامة للتبادل الديمقراطى للسلطة». ويسهب المقال فى الحديث عن ولع الدكتور مرسى الشديد بالديمقراطية وإيمانه بها ــ دون أن يقدم للقارئ مثالا واحدا لفعل حقيقى قام به مرسى فى سعيه وراء ذلك الهدف.
فليس هناك مثال يقدمه. اليوم، وقد أُخرج الإخوان من السلطة، يتحدثون بشكل دائم عن الديمقراطية والشرعية، ونحن علينا أن نعترض على هذا الامتهان للغة وللتاريخ. مرسى فقد شرعيته لحظة أن أُطلِقت ميليشيات الإخوان على اعتصام معارضيه فى نوفمبر الماضى، فقد شرعيته لحظة أن لفظ محمد الجندى أنفاسه الأخيرة تحت التعذيب فى إحدى زنازين الأمن، فقد شرعيته لحظة أن قَتَل الناس أربعة من الشيعة دون أن تنبس الحكومة ببنت شفة. الديمقراطية فى عهد مرسى لم تختلف عن الديمقراطية فى عهد مبارك أو فى عهد المجلس العسكري: إن عارضتهم، إن فكرت فكرا مغايرا لهم، خاطرت بحياتك.
وحين نقَيِّم التزام مرسى بالعملية الديمقراطية، علينا أن نتذكر كيف فرض دستور ما بعد الثورة على الشعب بموافقة ٦٤٪ من أصل ٣٣٪ ممن يحق لهم إبداء الرأى.
فى مقالها الافتتاحى فى ٩ يوليو، كتبت الجارديان، «حسب تقديرنا زاد عدد المصريين الذين جرحوا وقتلوا فى أسبوعين من التظاهر عن عدد نظرائهم فى عام من حكم محمد مرسى». والذى لا تصرح به الافتتاحية أن تسعة على الأقل من الذين قُتلوا فى هذه الفترة قتلوا بطلقات جاءتهم من مقر الإخوان فى المقطم، وأن ثمانية قتلهم متظاهرو الإخوان، وأن هناك موجة من العنف الطائفى تجتاح الريف المصرى، شهد أسوأ أحداثها إلى الآن مقتل أربعة من المسيحيين فى الأقصر. عدد القتلى فى ارتفاع، ليس فقط لأن القوات المسلحة عادت إلى الشارع، بل لأن الإخوان مسلحون وغاضبون وغير مستعدين للتنازل.
الإخوان والقوات المسلحة ــ الاثنان قاما بالقتل، ويبدو فيهما إصرار على التصعيد. ونحن نعرف تماما أن الخطر الأكبر على الثورة يأتى من القوات المسلحة، وأن المؤسسة الأكثر تجهيزا والأكثر شراسة هى القوات المسلحة، وأن المؤسسة الأكثر مسئولية عن مشكلات البلاد المزمنة هى القوات المسلحة ــ لكن كل هذا لا يعنى أن على الإعلام الليبرالى الغربى أن ينحاز إلى الإخوان لأنه اعتاد أن يدافع عن المسلمين المضطهدين فى الغرب. الإخوان لا يهتمون والقوات المسلحة لا تهتم بأن تمكن الشعب من العيش والحرية والعدالة الاجتماعية. نعرف هذا. الذى لا نعرفه بعد هو ما الذى يستطيع الشعب أن يقوم به الآن؟
الشعب هو المجهول العظيم. الشعب قضى عامين ونصف يكاد لا يتحدث إلا فى السياسة. فهل من الكثير أن نطلب من المعلقين فى الغرب، الذين يكتبون بالإنجليزية، أن يكفوا عن تلقيننا دروسا حول الديمقراطية؟ لأننا، حين نرقب عمليات بيع اليونان، وإنقاذ البنوك المتسببة فى الكوارث الاقتصادية، والحملات باهظة التكاليف للمرشحين فى الانتخابات الأمريكية، وشبكات النخب المحافظة التى تشكل الحكومة البريطانية، والقوة الخبيئة لمجموعات الضغط على الحكومات الغربية ــ نجدنا نتساءل: أين الديمقراطية التى تعمل بحق؟
وإن كان المعيار النهائى للشرعية هو الصندوق فربما يكون من الأمانة أن يسمح للمواطن الأمريكى أن يصوت على استمرار المعونة العسكرية لمصر؟ أو ربما حق للمواطنين فى بريطانيا أن ينتقوا السوق التى يتوجه إليها ديفد كاميرون يسوق فيها أسلحته؟ لا توجد فى العالم كله منظومة تتصف بالكفاءة والعدل. أما فى مصر فالأوضاع على الأقل فى حالة حراك والحكومات فى حالة اهتزاز دائم. ومادام الشعب مُصِرًّا على ألا يستسلم لواقعه، ومادمنا مؤمنين بأن مستقبلنا لم يحدد لنا، يظل فى إمكاننا أن نأتى بالجديد.
عمر روبرت هاملتون
١٠ يوليو ٢٠١٣