فى الحقيقة «الديمقراطية» ليست لها جنسية ولا دين، ولكنها مفهوم سياسى يعنى حرفيا «حكم الشعب لنفسه»، فهى نظام للحكم يشارك فيه جميع المواطنين المؤهلين على «قدم المساواة»، وتُمكِنهم من الممارسة الحرة، والمتساوية لتقرير المصير السياسى للوطن. ومن أهم أسس الديمقراطية الالتزام بالمسئولية، واحترام النظام، وترجيح كَفّة «المعرفة» (أى العلم) على القوة والعنف، وما قصدناه من عنوان هذا المقال هو وصف الوضع السياسى للشقيقة لبنان باعتباره حالة خاصة أو ناقصة «للديمقراطية» الصحيحة!
فى عصرنا الحديث، يؤمن الجميع بأن الدولة الحديثة عماد تقدمها واستقرارها هو تطبيقها للديمقراطية، ولكن الذى يغيب عن الكثيرين هو أن «الديمقراطية» لا تتكون من عنصر واحد، كما هو واضح فى تعريفها السابق ذكره، فهم يعتقدون أن منتهى الديمقراطية هى صناديق الاقتراع فقط، وهذا مخالف للحقيقة، لأن الصناديق هى العنصر الأخير والمتمم لهذا النظام، فهى مثلها مثل أى شىء موجود فى الحياة لا تتكون من عنصر واحد، فالماء، على سبيل المثال، يتكون من عنصرين (يد2 ا)، أما الوحدانية فهى من صفات الألوهية فقط؛ الديمقراطية إذن مفهوم سياسى يتكون من عدة عناصر، إذا فقدنا عنصرا واحدا منها تحولت إلى النقيض، وأصبحت «ديكتاتورية» أو «فاشية»!
وبتعبير آخر، نعم «الديمقراطية هى الحل»، وهى حقا العلاج الوحيد والناجع لإصلاح الدول المتعثرة أو الفاشلة أو المتأزمة فى مسيرتها سواء السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الأخلاقية... هى كالدواء لعلاج المريض، مع العلم بأن أى دواء لا يتكون من عنصر واحد، ولكنه مُركب من عدة عناصر كيميائية، إذا انتزع منه عنصر واحد، حتى وإن كانت نسبته قليلة، أو تمت تركيبته بنفس العناصر ولكن بكميات وبنسب مختلفة، فهو فى هذه الحالة يتحول من دواء شاف إلى مُركب كيميائى مُؤذٍ وغير شافٍ، وربما سام، وبالتالى قاتل!
ونتج عن عدم الالتزام بكل مكونات «الديمقراطية» الأوضاع التى تمر بها الدول التى تُسمى بدول العالم الثالث، نرى أن كلها، بلا استثناء واحد، تُعانى من مشكلات كبيرة تعوق مسيرة نهضتها، ونموها الطبيعى، بل وتهدد كيانها ووجودها، ولعل الحالة اللبنانية خير دليل على قولنا، رغم أنها أكثر الدول العربية التى نجد فيها احتراما لصناديق الانتخابات، وأكثر الدول التى نجد فيها حرية للتعبير، ولا نجد فيها معتقلات سياسية، وكل من فيها يحترم الدستور احتراما مطلقا، ولهذا يحلو لكثير من الناس وصف نظامها بالديمقراطى.
***
لقد استمرت لبنان بدون رئيس للجمهورية مرتين: من 2007 إلى 2008، ومن 2014 إلى 2016، كانت الحكومة تقوم بعمل رئيس الجمهورية! ورغم هذا «الفراغ الرئاسى» إلا أن الدولة لم تنهار، ولم تحاول أى مؤسسة، سواء مدنية أو عسكرية، ملء هذا الفراغ، احتراما للدستور، ولكنها مع هذا هى دولة مُعرضة لأن تصبح فاشلة، وتعُم فيها الفوضى!
نرى فى الحالة اللبنانية ثلاثة عناصر متوفرة من مكونات «الديمقراطية»: دستور يحترمه الجميع، وحرية للتعبير، وفصل بين السلطات الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية، ولكن من الواضح أن أى دولة لا تتوفر فيها العناصر الثلاثة السابقة، بشكل أو بآخر، والتى يمكن أن نصفها بأنها دولة ديكتاتورية، هى أكثر استقرارا وأمانا من دولة لبنان! والسبب فى ذلك هو، كما سبق أن أشرنا، أن «الديمقراطية» هى مفهوم مكون من عناصر كثيرة، إذا فقدت عنصرا واحدا تحولت لنظام فاشل.
***
إذن ما هى العناصر المفقودة من ديمقراطية النظام اللبنانى الحالى، أو العناصر التى افتقدها الدستور اللبنانى، أو التى نص عليها الدستور اللبنانى وهى تتعارض مع مفهوم «الديمقراطية» الصحيحة؟
للإجابة على الأسئلة المطروحة لابد من مراجعة المكونات الأساسية لأى دستور ومقارنتها بدستور لبنان، فمن أهم مواد أى دستور مُطابق للمعايير الصحيحة، والتى تسمى بالثوابت الجامعة، هى التأكيد على «المواطنة»، وعدم تدخل الدين فى السياسة.
والمواطنة هى كلمة مشتقة من «الوطن» ومعناها فى اللغة «مكانُ إِقامةِ الإِنسان وَمقَرُّه، وإليه انتماؤه، وُلد به أَو لم يولد»، هذا من الناحية اللغوية، أما من الناحية السياسية: هى «حق كل مواطن فى الحصول على حقوقه دون تمييز من أى نوع: فى الدين، والمذهب، والجنس، واللون»، أى أن كل مواطن له الحق فى تولى أى منصب، وفى المشاركة العادلة فى ثروات وخدمات الوطن، فهل هذه الأمور مجتمعة متوفرة بعدالة بين جميع مواطنى لبنان؟ بالطبع لا!
إذن عنصر «المواطنة»، على أهميته الكبيرة، هو غير موجود فى الدستور اللبنانى، فنظام المحاصصة مخالف لهذا، وهذا من شأنه أن جعل انتخاب أعضاء البرلمان على أساس نظام التمثيل النسبى للمجموعات الدينية المختلفة (مسيحيون: موارنة، وروم أرثوذكس وكاثوليك...؛ ومسلمون: سُنة وشيعة ودروز...)، مما أدى إلى أن معظم النواب لا يمثلون الأحزاب السياسية كما هى معروفة فى الغرب، وإنما تستند الكتل السياسية على المصالح الطائفية والدينية، أو على الولاء لشخص أو لأسرة، وليس على الانتماءات السياسية للوطن.
ويؤكد لنا التاريخ أن ما من مُستعمر إلا وزرع فتنة فى البلد المحتل، قبل الرحيل عنه، وذلك ليضمن عدم الاستقرار، واستمرار حالة الضعف، وبالتالى تبعية البلد له دائما، بعد الجلاء؛ فعلها الإنجليز فى أثناء احتلالهم لمصر، بدعمهم لتكوين جماعة الإخوان المسلمين فى 1928، والذى تحول إلى تنظيم إرهابى فيما بعد؛ وفعلها الانتداب الفرنسى بتكوين النظام الطائفى فى لبنان، قبل رحيلهم عنه فى 1943، وكان من نتائجه تكوين تنظيم حزب الله؛ وفعلها الأمريكان فى العراق بعد احتلاله فى 2003، فأسسوا نظاما للحكم ــ مثل النظام اللبنانى ــ مبنى على أسس عرقية ودينية (شيعة وسنة وأكراد وتركمان...)، فتحولت الانتخابات فيها إلى تنافس عرقى، أكثر من أن تكون تنافسا سياسيا، كما زرع تنظيم داعش الإرهابى!
وهكذا نستنتج أن السياسة الاستعمارية هى مستمرة وبفكر واحد، فى أى زمان وأى مكان، فهى تعمل دائما على إعاقة إقامة نظام ديمقراطى حقيقى، ليس فيه تمييز عنصرى أو طائفى أو دينى، على الرغم من دعواتهم المستمرة بحقوق الإنسان، وعلى عكس مطالبتهم بنظم ديمقراطية فى بلادنا!
ولو أن أهل لبنان الأشقاء على علم بتاريخ بلدهم، مدركون بأن نظام المحاصصة الطائفى الذى يعانون منه الآن، ويعملون على إسقاطه، هو صنيعة الانتداب الفرنسى، لما تقدم بعضهم للرئيس الفرنسى ماكرون ــ أثناء زيارته للبنان غداة الانفجار ــ بطلب لعودة الانتداب الفرنسى إليهم!
***
هكذا يتضح لنا أن عنصرا واحدا افتقده الدستور اللبنانى وهو «المواطنة» أدى لتكوين مؤسسات شكلية (تشريعية وتنفيذية وقضائية) لا تقوم بدورها الحقيقى، فكانت الحروب الأهلية، وعدم الاستقرار، وساد الفساد والخراب البلاد فى كل نواحيها!
ثِمَة درس آخر لابد من التأكيد عليه، هو واضح جلى فى مقالنا: ضرورة عدم خلط الدين بالسياسة، لأن أولا: هما من طبيعتين مختلفتين ومتعارضتين؛ فالدين ثابت ومقدس، أما السياسة فهى متغير ومدنس، وعليه فالخلط بينهما يُضر بكليهما، فيصبح الدين مدنسا، وقابلا للتغيِّر، والسياسة جامدة ومقدسة، بنظرياتها ورجالها لا يمكن تغييرهم إلا بالموت أو بالثورات!
وثانيا: يشهد التاريخ الإنسانى فى كل عصوره القديمة والحديثة على صحة قولنا، فالأديان عندما دخلت فى السياسة كانت سببا رئيسيا فى حروب قضت على الملايين من البشر، وأعاقت حركة التاريخ فى التقدم والرقى بالإنسان! وصحَّ شعار «الدين لله، والوطن للجميع».
وخلاصة القول أن الديمقراطية الصحيحة تتكون من عناصر عديدة، من أهم عناصرها دستور يحترمه الجميع، ومتوافق مع المقاييس العلمية والعالمية، وأهمها: مدنية الدولة، والفصل بين الدين والسياسة، والفصل التام بين السلطات الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية)، والتفعيل الحقيقى لدور كل مؤسسة، ولا يُكتفى بالشكل، وحرية التعبير، والالتزام بحقوق الإنسان، وتقبل الرأى الآخر، وتطبيق القانون بصورته «العمياء»، وتداول السلطة عن طريق انتخابات نظيفة، هذه العناصر إذا فقدت عنصرا واحدا فسد مفهوم «الديمقراطية»، وتحولت الدولة إلى «الحالة اللبنانية»، أو ما شابه فى دول العالم الثالث!
علما بأن كل هذا لا يتحقق إلا فى مجتمع الأهمية الأولى له، وبدون أى منافس آخر، هو «التعليم المتميز»، و«الإعلام المنضبط» حتى يتمكن الشعب من استيعاب مفهوم الديمقراطية الصحيح، ويعمل على تطبيقه.
أستاذ الأدب واللغويات بقسم اللغة الفرنسية بجامعة الملك سعود بالرياض