نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب «كرم الحلو»، نعرض منه ما يلى:
صبيحة الثالث من يوليو من العام 1922، رحلَ فرح أنطون وهو فى الثامنة والأربعين من عمره بعد معاناة قاسية من المَرض فى معدته وقلبه. فقد أدّى به العمل المُضنى والإجهاد، ورفْضه الانصياع إلى أوامر الأطبّاء بالانقطاع عن العمل، إلى أن ساءت صحّته، فأُصيب بالإغماء فوق مَكتبه وأُعيد من جريدة «الأهالى» فى القاهرة محمولا إلى البيت.
وإذ كان فرح أنطون مفكِّرا إشكاليّا، فقد أَثار بين مُعاصريه رؤى مُتناقِضة إلى فكره وطروحه الإيديولوجيّة والاجتماعيّة والدينيّة. ففى رأى مارون عبّود هو الذى عرّف سواد الشرق الأدنى ببوذا وكونفوشيوس، وأَطلعهم على شرائع حمورابى وفلسفة تولستوى. وهو أوّل من نشرَ تعاليم روسّو وتَرْجَمَ مكسيم غوركى، وأوّل من اكتشف تعاليم ماركس وعرَّف العرب بإرنست رينان وتَرْجَمَ كِتابه «يسوع» يَوم كان اسم رينان يُفزِع المُتديّنين فى الغرب، ويُرادِف الكفر والإلحاد فى الشرق. وفى رأى سلامة موسى، فإنّ فرح أنطون هو الفاتِح لدِراسة النهضة الأوروبيّة الحديثة، وناشِر الأفكار الديمقراطيّة الحرّة، ومن أوائل مَن عرّفوا بالمَذاهب السياسيّة والاجتماعيّة الحديثة فى المَشرق العربى. أمّا محمود عبّاس العقّاد، فقد اعتبره «طليعة مبكّرة من طلائع النهضة، وسيعرف المُستقبل من عمله ما لم يَعرفه الحاضر».
على الضدّ من هؤلاء وسواهم، تعرَّض أنطون للافتراء والاتّهام بالإلحاد والتطرُّف من الذين أساءوا فهْم توجّهاته العلمانيّة والعقلانيّة والنهضويّة التى قادته إلى الاهتمام بابن رشد ورينان، ودعوته إلى فصل السياسى عن الدّين التى أَغضبت المُتديّنين المُسلمين والمسيحيّين على السواء، حتّى أنّ لويس شيخو ذهبَ إلى أنّ أنطون «تجاوزَ كلّ حدود الفطنة فى آرائه المُتطرّفة المُجرَّدة عن روح الدّين دون مُراعاةٍ لصحّته، حتّى غلبت قواه فمات ضحيّة غلوائه». ولم يغفر له شيخو ترجمة كِتاب رينان «تاريخ المسيح» فاتّهمه بالماسونيّة والإلحاد المُفضى إلى فساد العِباد وخَراب البلاد.
فمَن هو هذا الرائد؟ ما هى إنجازاته النهضويّة؟ ما مَوقعه فى الفكر العربى الحديث؟ وما هى آراؤه السياسيّة والاجتماعيّة؟
وُلد فرح أنطون فى العام 1874 فى طرابلس الشامّ من أسرة أرثوذكسيّة. دَرَسَ فى مدرسة كفتين فى الكورة، وسافرَ إلى مصر فى العام 1897، وأَصدر فى الإسكندريّة مجلّة «الجامعة» فى مايو 1899، ثمّ هاجرَ إلى نيويورك فى العام 1906 واستأنفَ إصدارها هناك؛ لكنّه لم يلبث أن عاد إلى القاهرة وأعاد إصدارها من جديد، إلّا أنّه لم يُصدِر منها سوى عددَين فقط.
توقَّف عن الكتابة فى خلال الحرب العالَميّة الأولى، وتحوَّل إلى العمل فى المسرح؛ ثمّ دخل فى حزب الوفد بعد ثورة 1919 فى مصر وعاد إلى العمل فى الصحافة.
فرح أنطون العثمانى
تجلّت مبادئ أنطون السياسيّة والاجتماعيّة والفلسفيّة فى مَقالاته فى «الجامعة» وفى كِتابه «ابن رشد» والكُتب اللّاحِقة وأخصّها «الدّين والعِلم والمال» و«الوحش، الوحش، الوحش» و«أورشليم الجديدة»، حيث تُشكِّل مسائل الدّين والعقل والعِلم والعلمانيّة والاشتراكيّة الموضوعات الرئيسة لتلك المؤلّفات. أمّا المبدأ المركزى الذى يؤطِّر فكر أنطون السياسى والاجتماعى، فهو إقامة مُجتمع وطنى فى الشرق، وبخاصّة فى الإمبراطوريّة العثمانيّة، تندمج فيه جميع الأديان والطوائف، ويجد فيه كلٌّ مَكانه الاجتماعى والسياسى الذى تتساوى فيه الحقوق والواجبات، لتشكيل مجتمع موحَّد قادر على ردّ غائلة الاستعمار الغربى. من هنا أطلق أنطون على مجلّته فى عددها الأوّل اسم «الجامعة العثمانيّة»، ثمّ ما لبث أن تخلّى عن كلمة «العثمانيّة» فى ما بعد. وقد أَوضح مَقاصده فى مقدّمة العدد الأوّل بقوله «أهمّ أغراض هذه المجلّة خدمة الوطن العثمانى والمصرى والجامعة العثمانيّة بنَوعٍ مخصوص فتبحث فى ما يَجمع لا فى ما يُفرِّق»، مُعربا عن ثقته بـ«شعور العثمانيّين فى كلّ مكان بوجوب تآلفهم كالبنيان المرصوص»، ولهذا فالدولة العثمانيّة إذا ما أرادت البقاء وُجب عليها أن تكون دولة قوميّة علمانيّة.
فرح أنطون العلمانىّ
على هذه الخلفيّة الفكريّة بنى فرح أنطون فكره العلمانى، فإزاء العلمانيّة العلمويّة المُلحِدة التى قال بها شبلى الشميّل، تصدّى أنطون للاستبداد الدينى والطائفى بالحدّة ذاتها التى تصدّى بها الشميّل من دون أن يصطدم بالدّين ومسلّماته الإيمانيّة الميتافيزيقيّة، بل إنّه على العكس أعلن تمسّكه بهذه المسلّمات ودافعَ عنها ولم يُشكِّك بأى واحدة منها، وواجَه بالإدانة والاستنكار اتّهامه بالكفر والإلحاد، مُشدِّدا على أنّ مَقصده إنّما هو تنقية العقائد الدينيّة من الأوهام والخرافات، وانتزاعها من أيدى رجال دينٍ مُستبدّين يدّعون احتكار الحقيقة لكنّهم لا يبغون سوى أهوائهم ومَصالحهم بالسيطرة على قلوب الناس وضمائرهم. يقول فرح أنطون: «معاذ الله أن نروم هدْم الدّين كما تفترون علينا، وإنّما نروم هدْم الأوهام والخزعبلات فى الدّين». ولا يجد أنطون تناقُضا بين العِلم والإيمان، فالعِلم والدّين غرضهما واحد: تحسين حال الإنسانيّة وترقية شئون البشر.
فى هذا السياق أعاد أنطون توظيف الرشديّة للحدّ من هَيْمَنة الدينى على السياسى، ومُواجَهة شِعار جامعة إسلاميّة كانت ترفعه الحركة الإصلاحيّة السلفيّة. ففى العدد الثامن من مجلّته «الجامعة» لخَّص فرح فلسفة ابن رشد ومبادئه العقلانيّة لتأكيد التواصل بين العقل والدّين وإثبات وحدة التوجُّه بينهما أيّام كان التقليد والتعصّب يطغيان على التفكير العقلانى.
إلّا أنّ لكلٍّ من العِلم والإيمان قواعد عمله وطُرق إثبات حقائقه فى رأى أنطون، الأمر الذى يَستدعى الفصل بين السلطتَين الدينيّة والزمنيّة، فغرضُ الدّين الاشتراع للآخرة وغرضُ الحكومات الاشتراع لهذا العالَم. وهذا يتطلّب احترام الأديان وعدم تقييد المُعتقدات الإيمانيّة، تأكيدا للمساواة المُطلَقة بين أبناء الأمّة بقطع النّظر عن مُعتقداتهم ليكونوا أمّة واحدة، وصَونا للوطن من النّزاع والشّقاق المُفضيَيْن إلى الضعف والانحطاط.
فرح أنطون الاشتراكىّ
عرض روّاد نهضتنا العربيّة الحديثة لمسألة التفاوُت الاجتماعى من منظورٍ إنسانيّ اقتصرَ على الرأفة بالفقراء والإحسان إليهم من دون الذهاب إلى الأُسس السياسيّة والاقتصاديّة للفقر والظلم الاجتماعى، لأنّ الشروط الموضوعيّة للأفكار الاشتراكيّة لم تكُن قد تكوّنت بعد فى البلدان العربيّة، ولذلك ظلّ ماركس غريبا عن أفكار النهضويّين العرب وتطلّعاتهم حتّى مطلع القرن العشرين. أمّا فرح أنطون، فقد تجاوزَ ذلك الطرح النهضوى الإنسانوى ليُقارب الماركسيّة فى طرْحه للمسألة الاجتماعيّة وحقوق الفقراء، فهو يتحدّث عن «وقف المَصانع والمَزارع والمَعامل للأمّة وقفا لا يجوز بَيعه ولا شراؤه لأنّه للجمهور»، ولأنّها من مَرافق الأمّة ومَنافعها كالأنهر والأبحر والهواء، وهى ملك للجميع، يعمل فيها أفراد الأمّة، ويتقاضون أجرتهم كلٌّ بقدر حاجته وكفاءته.
وذهب أنطون فى تأكيد حقوق العمّال فى الثروة إلى حدّ طرْح مبدأ «القيمة الزائدة» الماركسيّ فى كِتابه «الدّين والعِلم والمال»،
للدلالة على مَصدر الثروة ودَور العمّال فى تراكُمها وحقّهم فى الانتفاع منها. إلّا أنّه، على عكس ماركس، رفضَ الوسيلة الثوريّة الدمويّة فى تحقيق العدالة الاجتماعيّة، لأنّها تؤدّى إلى دمار المجتمع. ولذلك لا بدّ من عقْدٍ اجتماعى بين الرعيّة والحكومة يعيش بموجَبه الأغنياء والفقراء فى إخاء ومساواة وحريّة. بهذه الصيغة يريد أنطون حلّ المسألة الاجتماعيّة الاقتصاديّة عن طريق الاشتراكيّة، لكنّها ليست اشتراكيّة كارل ماركس، بل اشتراكيّة يُمكن وصفها بـ«الاشتراكيّة المعقولة لا المتطرّفة».
من هذا المنظور الاشتراكى الحالِم بالعدل والإخاء والمُساواة والحريّة، أدان فرح أنطون تمدُّن أمريكا ومآل الإنسان الأمريكى فى ظلّ الجشع الرأسمالى. فقد كان يأمل أن يُعايِن فى أمريكا مُجتمعا أكثر إنسانيّة وعدلا وحريّة من مُجتمعات الشرق الاستبداديّة، فإذا به يُعلن دهشته وخَيبته إزاء مُعاناة الشعب الأمريكى وعبوديّته لأصحاب الأموال. يقول أنطون: «تَركْنا الشعوب فى الشرق خرافا يُجَزّ صوفها ويُستدرّ لبنها ويَستبِدّ بها حاكِمُها وغنيّها والرئيس الروحى فيها، فوجدنا الشعب فى أمريكا تحت نير عبوديّة لأصحاب الأموال والرؤساء تختلف عن عبوديّة الشعب الشرقى، ولكنّ النتيجة واحدة، وهى أنين الشعب تحت عبئه الثقيل».
بعد ذاك الجهاد المضنى كلّه من أجل وحدة الشرق والعرب، ومن أجل تقدُّم المُجتمعات الشرقيّة والعربيّة وارتقائها، رحلَ فرح أنطون سقيما فقيرا كئيبا، فلم يَجنِ من الصحافة سوى التعب والشقاء، وقد عبَّر عن ذلك بقوله: «لقد ضحّينا فى سبيل الجامعة بكلّ شىء... إنّ صناعتنا شقيّة فى بلادنا ولغتنا... فلَو أَنفقنا من المال والوقت والتعب ما لو أنفقنا نصفه فى أى عمل لكان عاد علينا بألوف الأموال». ولعلّ فى ما قالته الأديبة مى زيادة فى فرح أنطون خير تعبير عن مُعاناته: «أثرٌ عميق كئيب كان ينطق من صوته ونظره وسكونه، حتّى ومن ابتسامه، حتّى ومن تحمّسه ــ وهو اقتناعه الصميم بأنّه لن يَتدوْزَن ومُحيطه، وأنّ مُحيطه لن يَتدَوْزن وإيّاه».
النص الأصلى