نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب مصطفى حجازى، يؤكد فيه أن تنمية الإبداع لدى الأفراد لم يعد رفاهية، بل أصبح الإبداع ضرورة لصعود الأمم وتقدمها. لذا تناول الكاتب تعريف الإبداع، ومكوناته، ومعوقات عملية الإبداع، وأخيرا طرق التصدى لهذه المعوقات... نعرض من المقال ما يلى:لم يعد الإبداع عملا نخبويا يقتصر على القلة المبدعة فى مختلف المجالات. كما أنه لم يعد ترفا للخاصة، بل أصبح هو المحدد لمصائر الأمم ومكانتها. وآخرها الإبداعات المتسارعة والمتلاحقة فى التقنيات الرقمية التى هى بصدد تغيير الحياة على كوكبنا فى نوع من القطيعة التطويرية غير المسبوقة، والتى تطرح سؤالا أى بشر سنكون؟ تكفى الإشارة إلى تقنيات وسائط التواصل الاجتماعى وكيفية تغييرها لأنماط حياتنا، وآخرها الذكاء الاصطناعى الذى أخذ يصدع دعائم نظام العالم القائم، ويثير من التساؤلات والمخاوف بقدر ما يثير من الحماسة.
ويتمثل المظهر الثانى من الإبداع فى التحول من الإبداع الفردى النخبوى إلى الإبداع الجماعى، من قبل فرق العمل المختصة. أبرز الأمثلة على ذلك، جوائز نوبل فى مختلف العلوم، والتى يتقاسم كلا منها أكثر من باحث من أكثر من جامعة أو بلد يشكلون فرقا بحثية فى المجال. وفى ما هو دون ذلك، فإن الإبداع أصبح نتاج الفرق الإنتاجية كل فى مجالها الخاص. تجتمع كل من هذه الفرق دوريا، وتمارس ما يسمى فى الإبداع «العصف الذهنى» أو توليد الأفكار؛ حيث يعلق النقد، وتجهد الجماعة للإتيان بجاروفة أفكار فيها الغث والسمين، ثم تدرس هذه الحصيلة، ويتم اختيار الأفكار القابلة للتطوير إلى أفكار إبداعية تعطى غير المسبوق من التقنيات أو أساليب العمل. أو ليست الحضارة الرقمية وتقنياتها المذهلة مجرد عملية إبداعية يصنعها ويقودها الشباب أساسا؟
لا بد بعد هذا التمهيد من التحول إلى صلب الموضوع فنعرض لتعريف الإبداع ومكوناته، وشروطه، وعملياته، ومن ثم معوقاته كى ننهى هذه العجالة بمشروع تربية الإبداع.
• • •
يرد فى «قاموس محيط المحيط»: بدع الشىء، وابتدعه أى خلقه على غير ذى مثال. فالإبداع تعريفا هو السبق والأصالة والخروج عن المألوف على شكل أفكار ومنتجات ريادية. وذلك على النقيض من العرف والعادة والتكرار والنمطية والتمسك بما درج عليه الأولون.
أما مكونات العملية الإبداعية، فهى متعددة بدورها وتتكامل فى ما بينها كى تشكل التفكير المبدع فى صيغته النهائية. يتمثل أولها فى رصيد معرفى يتصف بالغنى والعمق والشمول فى مجال الاختصاص. فالشاعر المبدع، وكذلك العالم المبدع، لا بد لكل منهما من التبحر فى مجال اختصاصه والإحاطة به؛ بحيث تختمر هذه الحصيلة المعرفية، ويصبح بالإمكان تصور علاقات غير مسبوقة بين عناصرها ورؤى تخرج عن المألوف. ويتمثل العنصر المكمل للأول فى الذكاء فى المجال تبعا لنظرية الذكاءات المتعددة التى طورها «هوارد جاردنر»، أستاذ علم النفس فى جامعة هارفارد. ويتكامل هذان المقومان معا كى يشكلا منجم الإبداع وشطحات إلهامه غير المسبوقة. فالشاعر يجب أن يتمتع بكل من الذكاء اللفظى والانفعالى، والمهندس المعمارى يتعين أن يتمتع بالذكاء الفضائى المكانى.. وهكذا. وتشكل الحرية الجوانية والمرونة والطلاقة الذهنية التى تتيح الانطلاق، وكسر التقليد، والخروج عن الدروب الممهدة الركن الثالث لأساسيات التفكير الإبداعى. وتتممها الدافعية الجوانية النابعة من الذات، والتى تدفع إلى خوض غمار غير المألوف، وبحيث ينغمس المرء فى العملية الإبداعية ويستغرق فيها بنوع من الفرح، متناسيا ذاته، وما حوله. ويتوج هذه المقومات الشخصية المناخ الاجتماعى والمؤسسى المهيئ للفرص والمشجع على الإبداع ورعايته، ويوفر له كل المتطلبات الضرورية. وهنا تحتل الحاجة إلى الإبداع مكانتها. ومن أبرز الأمثلة على الحاجة إلى الإبداع، ما نشهده حاليا فى المقاومة فى غزة، وكيف تم تحويل المظلات الشراعية المستخدمة فى الرياضة إلى أداة هجوم وقتال. وقبلها البالونات الحارقة ومقلاع الراعى، وغيرها الكثير مما لا يتيح المجال المحدود لهذه المقالة استعراضه. فالقول «إن الحاجة أم الاختراع» يجد التجسيد الحى له فى هذه المقاومة وفنونها وما تبدعه من أساليب غير مسبوقة.
وتتكامل هذه النقاط فى العملية التالية: رصيد معرفى وذكاء نوعى فى المجال يولد شطحات إلهام؛ ومن ثم الشغل على هذه الشطحات، وصقْلها، وصولا إلى درجة الإتقان؛ ومنها يتولد العمل الإبداعى. فالإلهام والإتقان يشكلان الثنائى المولد للإبداع. فعملية الإتقان فائقة الأهمية ولا يتم إبداع من دونها. ويقال بهذا الصدد أن بتهوفن قد مزق ما يقرب من 5000 ورقة نوتة موسيقية فى شغله على السمفونية الخامسة كى تأتى فى قمة إبداعها المعروف. فبعد الإلهام يأتى الشغل الدءوب على هذه الفكرة كى تصل إلى شكلها النهائى الإبداعى. وذلك فى مختلف المجالات سواء الشعرية والأدبية منها أم العلمية أم الصناعية.
ولكى نوضح العلاقة بين الإلهام والإتقان فى العمل الإبداعى نضرب مثل منجم استخراج الألماس. فكل من الاختصاص والتبحر فيه والذكاء النوعى فى المجال يشكلان المنجم. والماسة الخام تشكل الإلهام. وبعدها تأتى عملية الصقل المتقن لتحويل الماسة الخام إلى جوهرة فنية فائقة الجمال. هذا الصقل المتخصص يشكل الإتقان.
أما الدافعية الجوانية، فهى تتكامل مع الحاجة البرانية المؤسسية، وهما بدورهما لا غنى عنهما لإنتاج العمل الإبداعى. وبذلك يكون لدينا مثلث الإبداع المتمثل بكل من الطلاقة الذهنية والدافعية والحرية الجوانية من ناحية، والحاجة البرانية من الناحية الثانية، ويتوجان بكل من الاستعداد الإبداعى والممارسة.
• • •
كل ما يعيق نمو مكونات الإبداع ونشاط عملياته يشكل عنصرا معوقا للإبداع، سواء على الصعيد الفردى أم الجماعى أم الاجتماعى. وهذا الأخير هو الأكثر خطورة، مما يجب العمل على علاجه. ومنها فى عالمنا سيادة المرجعية الماضوية، وتكريس العادة والاستقرار والسير على خطى الأولين. وكذلك ثلاثية العصبيات والفقه السلفى والاستبداد، وآلية اشتغالها المتمثلة فى كل من التأثيم، والتحريم الفقهى، والتجريم الأمنى. وهى ثلاثية تختم على العقول والنفوس، وتمنع انطلاقة جذوة الحياة، بحيث لا تترك من مجال سوى للتبعية الفكرية والنفسية والانقياد إلى نظام من المرجعية الفوقية الذى يعمم على مختلف مجالات النشاط والعلاقات. معوقات الإبداع هذه هى من العوامل الأساس المسئولة عن تأخر الشعوب وتخلفها عن الركب، وبالتالى تبعيتها. ويتلازم معها تدنى الحاجة إلى الإبداع الريادى، والانغماس فى فرط استهلاك ما أبدعه الآخرون من صناعات رائدة، والتباهى والتنافس فى هذا الاستهلاك.
تشكل تربية الإبداع المشروع النقيض لمشروع القمع وقمقمة الطاقات والاتباع والمرجعية الفوقية البرانية. تربية الإبداع مشروع وطنى مستقبلى أصبح ملزما لكل وطن يريد أن يحتل مكانة ودورا على الساحة العالمية متسارعة الدينامية والتغيير. وهو مشروع طويل النفس، ومتعدد الأبعاد والمرجعيات، بدءا من البيت والمدرسة وبقية مؤسسات التنشئة الاجتماعية والعمل والنشاط العام من بعدهما. وهو يتطلب إعداد القوة التغييرية اللازمة له، أى وضع استراتيجية وطنية لتنمية الإبداع وإطلاق العنان لمختلف مجالاته.
تبدأ تربية الإبداع فى البيت، ومنذ سنوات الحياة الأولى، وذلك من خلال العمل على إطلاق طاقات الطفل الحية، وتشجيع التعبير، والتساؤل، والمبادرة الذاتية. جل الأطفال مبدعون بشكل ما تلقائيا. يكفى التأمل بإبداعات اللعب الإيهامى، وما فيه من طلاقة ومرونة ذهنية، وخيال إبداعى. وكذلك تنمية الدافعية الجوانية والمبادرة والأصالة. وهو ما يتطلب توافر الوالدية الراعية والمتسامحة التى تعترف بكيان الطفل وطاقاته وتجليها، وذلك على نقيض الوالدية المتسلطة القمعية والمبخسة للطفل ومبادراته وإمكاناته. وينطبق الأمر ذاته على المدرسة ونظم التعليم فيها والعلاقات الصفية والمناخ المؤسسى. وكذلك تشجيع الحوار والمبادرات والمشروعات المشتركة ذات الصيغة الإبداعية، وإطلاق العنان للحلول غير المألوفة للمشكلات، وتنمية الطلاقة الذهنية والدوافع الجوانية. ويكملها مشروع تنمية الذكاءات المتعددة التى تشكل أساس الدافعية الجوانية نقيض أحادية المهارة المعرفية والجواب الواحد الصحيح المعمم على الجميع، والذى يمنع التفكير المفارق.
وفى ما يتجاوز البيت والمدرسة، ثمة الأطر المؤسسية الناظمة للمجتمع والإنتاج وعلاقاته، والتى يجب أن تنخرط فى المشروع الإنتاجى الوطنى الإبداعى، بمثابة استراتيجية تنموية كبرى تقوم على إعداد قدرات العطاء وإطلاق طاقاته المنتجة. فبذلك وحده تتوفر فرص النماء للإنسان والكيان. وكلمة السر المفتاحية فى هذه الاستراتيجية تكمن فى الرهان على الشباب والجيل الطالع؛ فهم يشكلون منجم الإبداع من خلال طاقاتهم الوثابة ودافعيتهم للعطاء، وكيانهم المتوجه نحو المستقبل. فإذا أطلقت طاقات الحياة المعطاءة هذه، فسوف تقدم المدهش الذى يخرج عن الدروب الممهدة والمعهودة. وبذلك يصنع المستقبل فى عالم متسارع التغيير، اللاهث وراء الجديد.
النص الأصلي