القاهرة.. مدينتى وثورتنا (٢١) - أهداف سويف - بوابة الشروق
الجمعة 13 ديسمبر 2024 6:48 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

القاهرة.. مدينتى وثورتنا (٢١)

نشر فى : الخميس 18 يونيو 2015 - 10:45 ص | آخر تحديث : الخميس 18 يونيو 2015 - 10:45 ص

الموجة الأولى

الثلاثاء ٨ فبراير ــ قبل ما سبق بقليل

أستيقظ على أصوات كأنها فى الغرفة معى:

« الجيش هيعمل انقلاب »

« مش محتاج يعمل انقلاب. هيستنىوا ياخدها مقشرة »

« سليمان جيش ــ مش عمر سليمان جيش؟ »

« كفاية جيش بقى، شبعنا جيش »

« جمهورية برلمانية »

« لا لا، مصر لازم يبقى لها رئيس، يبقالها ريس »

فى الزمالك أنا فى الدور السادس. هنا، عند أخى، أنا فى الثانى. فى ويمبلدون كنا فى الطابق الأرضى ولم يكن أحد يتحدث عند نافذتى.

شمس. أترك السرير لأنظر من الشباك: دخان سجائر يتصاعد، صوت المفاتيح على السلاسل، مجموعة من الرجال عند الباب الأمامى. لم أعتد بعد هذه المناقشات السياسية العلنية التى نسمعها الآن فى كل مكان. ليس فقط فى الميدان ولكن فى كل موقع.. المحادثات التى تسمعها سياسية: نظم حكم، تعليم، قطاع عام وقطاع خاص.. ما ثقل القمع الذى كان يكبت كل هذا؟

تعجبنى الإقامة فى بيت علاء وسهير.. عودة إلى قلب أسرة صاخبة مجادلة متنوعة كثيرة الأصدقاء.

فى غرفة المعيشة أكواب الشاى من ليلة امس، لفائف الشيكولاتة الخالية وقشر البرتقال. وسائد الكنب مبعثرة حيث جلسنا: أخى فى الفوتيى المعتاد، سهير إلى جانبه فى الكرسى المستقيم ذى سنادة الظهر الخاصة، عمر ــ الذى ورث عن خالى القدرة على أن ينام ويشارك فى الجلسة فى نفس الوقت – متمدد يحتل الكنبة، البنات على وسائد على الأرض، وأنا على ذراع الكرسى الأقرب للباب أقضى الجلسة كلها فى وضع أنى باقية دقائق فقط لأن على أن أقوم للعمل.

أحمد سيف وزملاؤه من مركز هشام مبارك تم الإفراج عنهم بدون أذى كبير، شباب اللجان الشعبية يحرسون الحواجز فى الخارج، ليلى ومنى وعلاء وسناء فى التحرير، ونحن نجلس لنرى شهادة الدكتور طارق حلمى عن معركة الأربعاء تكسب إلى صفوف الثورة أى مشاهد لم يكسبه قبلها حوار وائل غنيم.

جاء وائل غنيم إلى استديو «العاشرة مساء» مباشرة من أحد عشر يوما فى الحبس والاستجواب. أحد عشر يوما معصوب العينين. كان شاحبا مرهقا متوترا. خطفوه من التحرير يوم ٢٨. تحدث عن أحد عشر يوما لا يعرف أهله أو زوجته مكانه. بكى، ثم استجمع نفسه وتحدث ثانية. لم يكن يريد أن يعرف أحد أنه الأدمن لصفحة «خالد سعيد» التى أخرجت الناس إلى الشوارع يوم خمسة وعشرين. لكن الكل يعرف الآن، ولذا فهو سوف يقول ما عنده. بدأ بالشهداء:

« أول حاجة أنا عايز اقول لكل الناس، لكل الناس، والأمهات والأبهات اللى اولادهم ماتوا، البقاء لله وربنا يتقبل أولادكم شهداء سواء كانوا مواطنين، ضباط، عساكر، أى حد مات ده شهيد. مش عايز اقول أعتذر لإن احنا ــ عمر الناس اللى فكرت فى المظاهرة دى ما كانت بتفكر إنها تكسر أى حاجة مش تقتل بنى آدم. إحنا كلنا شباب بنحب مصر وعملنا كدة علشان إحنا بنحب مصر وكان مستحيل ــ إحنا كان أول حاجة، أول حاجة كتبناها «إحنا أصحاب حق»، وعمر الحق ماهييجى إنك تكسر ممتلكات شخصية أو خاصة أو عامة. الحق هييجى بإن احنا نطالب بيه. إحنا كان كل أملنا إن الناس تقول إحنا عايزين حقنا وهناخده. والعزاء ده عزاء واجب لإن الناس دى هى اللى ضحت بدمها ــ عرضت عليه المذيعة، منى الشاذلى، صور الشهداء أحمد بسيونى وإسلام وغيرهما فانتهى بالشهداء وبالدموع: «أنا عايز اقول لكل أم ولكل أب فقد ابنه أنا آسف. بس دى مش غلطتنا والله العظيم ما غلطتنا، غلطة كل واحد كان ماسك فى السلطة ومتبت فيها ــ« غلبه البكاء فدفع بالكرسى وانسحب من الأستوديو. لكنه كان قد فعل ما يكفى؛ تحدث بحماس وحرقة عن ولاء الشباب لمصر: «إحنا مش خونة، إحنا بنحب مصر، ماتعاملوناش على أساس إن حد بيزقنا ــ« كرر مرة أخرى الأهداف الكبرى للثورة: إعادة الكرامة والإحساس بالانتماء لكل إنسان، وضع حد للفساد، وإدارة مصر لصالح مواطنيها. رجانا أن نضع الماضى جانبا لبرهة ونفكر فيما سوف نكون عليه فى المستقبل. تحدث عن الأشياء التى نعلم جميعا أننا نحتاجها: جهاز جديد للأمن، ودستور جديد، حكومة انتقالية يشكلها رئيس المحكمة الدستورية تتحرك نحو انتخابات حرة نزيهة. كلامه هو كلام كل متظاهر فى شوارع مصر؛ صوت أصيل من أصوات الثورة وصل إلى شاشة التليفزيون، وكنا متأكدين أن هذا الصوت، بأصالته وصدقه سوف يصل إلى كل من بدأ يفقد الهمة وإلى كل من كان حتى اليوم غير واثق من الطريق.

منذ الأحد (٦ فبراير) وماسبيرو يُصَعِد: التحرير أصبح وكرا للمخدرات والدعارة، الاقتصاد ينهار، البلد تعانى من انفلات أمنى تام، الرئيس وعد أنه سوف ينظر فى كل الطلبات المشروعة، شباب مصر الطيب ينقادون وراء عملاء من حماس، من ايران، من إسرائيل، من أمريكا ــ ويقودون البلاد إلى الدمار. عرض التليفزيون مشاهد لوزير الداخلية الجديد يتفقد ثكنات قوات الأمن المركزى ويتحدث عن إعادة انتشارهم. البنوك والهيئات الحكومية فتحت أبوابها. كانت الرسالة: وصلتنا الرسالة والآن يجب أن يعود كل شىء إلى شكله المعتاد.

ولذا فهناك دعوة لمليونية جديدة اليوم الثلاثاء. سأذهب إلى التحرير فى الواحدة، أما الآن فأنتج كلمات وجمل وأجرى لقاءات بالتليفون. أم نجلاء وصلت وتنظف حولى وتقريبا تحاول تنظيف أصابعى على الكيبورد فأتوقف عن الكتابة فتنطلق فى الحديث عن قلق الناس لعدم وجود شرطة فى الشوارع فأذكرها بما كانت الشرطة تفعله فى الناس فتتفق معى لكنها مع ذلك تريد أن ترى الشرطة فى الشارع ــ الشرطة الكويسة. طيب ما هى دى واحدة من الحاجات اللى الثورة قامت علشانها: إن الشرطة تكون كويسة. وإن كل واحد ياخد فرصته. أقول: والصحة كمان. زوج أم نجلاء كان «طويل وعريض زى الباب وطول عمره بيشتغل ولما عيى ما كانش فيه أى حاجة تستر ــ لولا الناس الطيبة اللى ساعدتنا ــ» أيوة فعلا، أسمع نفسى أبدأ فى الخطابة: أهو جوزك مثلا، مافيش رعاية صحية، مافيش تأمين، وازاى مافيش معاش لكل السنين اللى اشتغلها؟ طيب ربنا مديكى الصحة وقادرة تخرجى تشتغلى ــ طب والناس اللى مش بتقدر تشتغل تعمل إيه؟ وبنتك؟ مش كانت بتشتغل فى مصنع منسوجات؟ ستة ايام فى الأسبوع اتناشر ساعة فى اليوم وبتاخد فى الأسبوع خمسة وثلاثين جنيه؟ يعملوا إيه الخمسة وتلاتين جنيه؟ وابنك: بيشتغل فى محطة بنزين. وبيدفعوله كام؟ ولا حاجة. بيقولوله فلوسه من البقشيش من اصحاب العربيات. حاولى تعلمى اولادك كلهم. اتعلموا؟ على كمل مدرسة؟ لأ. ليه؟ طب هى الحكومة بقى شغلتها إيه؟ شغلتها بس تسرق خير البلد؟ عرق الناس.

« ربنا مش هايسيبهم»، تؤكد لى، « ربنا معاكم. على بيقول دخل قناة السويس لوحدها تسد ديوننا كلها. يالا هاسيبك تشتغلى » من المطبخ ينطلق صوت عبدالحليم: وما كنتش اعرف.. قبل النهاردة.. إن العيون.. ممكن تخون بالشكل ده.. وما كنتش اعرف.. قبل النهارده..

•••

الثلاثاء ٨ فبراير

اليوم سيكون محوريا. بالأمس أضرب عمال طرة للأسمنت والسويس للمنسوجات. نأمل أن استراتيجية «عودوا للحياة المعتادة» ستأتى بنتائج عكسية، وأن الناس حين تجد نفسها متجمعة مرة أخرى فى أماكن العمل ستقرر الانضمام إلى الثورة. ليلى تقول إن أعضاء هيئات التدريس بالجامعات سيخرجون فى مسائر. وسيكون هناك آخرون.

العصر

ضيقوا مداخل الميدان أكثر. الأحد مساء حاول الجيش أن يحرك دباباته عدة أمتار إلى داخل الميدان وأطلق الرصاص فى الهواء حين منعه الناس، ويقال إنهم حاولوا التحرك مساء أمس أيضا. الآن الدبابات محاصرة تماما؛ فرش الناس الجرائد والحصر على الجنازير وهم يجلسون ويرقدون وينامون عليها.

الميدان حين تصل إلى داخله مبهر. حتى النور هنا مختلف، وطعم الهواء؛ هنا عالم أكثر نظافة. كل شىء أكثر وضوحا. أنظر إلى أوراق الشجر المقصوصة بغشومية تحاول الآن أن تنمو وتعود إلى شكلها الطبيعى. كل واحد من الناس يجد فجأة، وبمعجزة، أنه عاد إلى نفسه تماما. الكل يفهم ويتفهم. نعامل بعض برقة ورفق، وكأننا جميعا فى دور نقاهة، عدنا من على شفا الموت نحمل أنفسنا ــ أرواحنا ــ على كفوفنا، ثمينة مستعادة، ربما هشة. نعرف أننا يجب أن نحرص عليها، على أنفسنا وعلى أنفس الآخرين.

الميدان يبرق بالنظافة. القمامة مجمعة بنظام على حوافه وعلق عليها أحدهم لافتات تقول «الحزب الوطنى الديمقراطى». الألواح المعدنية عادت مرة أخرى لتشكل سورا حول أرض البناء الغامض، وهى الآن تحجب دورات المياه المنشأة للتو. أعمدة النور تمد أسلاكا تسمح بشحن الهواتف والكومبيوترات. المستشفيات الميدانية تغدق على الكل بالرعاية الصحية. لافتة تعلن «حلاق الثورة» تدلك إلى طريق خدمة حلاقة مجانية. جدار ضخم من الجيوب البلاستيكية الشفافة يصعد إلى السماء وشباب يجلسون إلى جواره، يحكى لهم الناس النكات فيكتبونها أو يرسمونها ويضعونها فى الجيوب: نكت وكاريكاتيرات تسبح فى الهواء فى غلاف شفاف. نصبة قراجوز يتحلقها أطفال وأسر ضاحكة، حاوى يأكل النار، رسومات للوجه وموسيقى ومسرح شارع ومنصة شعر.

يوم الأحد فى القداس والصلاة انهمرت دعواتنا للشباب الذين قتلهم النظام منذ الخامس والعشرين من يناير ــ وقبل ذلك. ثم، فى المساء، ظهر اللواء عمر سليمان، نائب رئيس الجمهورية ورئيس المخابرات على سى إن إن فى حوار مع كريستيان أمانبور. قبل ذلك وفى نفس اليوم كان قد التقى بأجزاء من «القيادات السياسية» القديمة ــ بما فى ذلك الإخوان المسلمين، لكنه أكد لأمانبور أننا، نحن الشعب، لا نمتلك بعد « ثقافة الديمقراطية»، وأن «التيار الإسلامى» هو الذى يدفعنا، وأن «ناس آخرين عندهم أجنداتهم الخاصة» يدفعوننا، وأن النِت والإعلام البديل سهل لشبابنا أن «يتحدثوا كلهم مع بعض لكنها ليست فكرتهم، هى تأتى من الخارج». أكد لنا ما نعرفه: هذا النظام عاجز عن أن يرانا على أننا أصحاب إرادة. لسنا سوى عربة زبالة يأتى أحدهم ويقذف بزبالته فينا ويدفعنا. ضحكت البلد كلها وهو يقول بوجوم لجمهوره الأمريكى أن البرادعى له صلات مع الـ«براذرز مسلمهود» وأن «المسلمين الإخوان» يدفعوننا. طيب، لماذا يتحدث بالإنجليزية؟ لماذا لا يحترم هؤلاء الناس أنفسهم حتى وإن كانوا لا يحترمونا نحن؟ راقبنا خبير التعذيب العجوز، المتخشب بالرسميات والثقة بالنفس، يتشبث بمفاهيمه التآمرية البسيطة ويحاول الحفاظ على اتزانه امام الطوفان، طوفان الشباب فى الميدان وفى الشوارع، وآلات التعذيب التى يعتمد عليها لن تنفعه اليوم حين يقول إن رسالته لنا هى «اذهبوا إلى بيوتكم، نريد أن نحيا حياة عادية» فيجيب الشارع بصوت واحد: «مش هنمشى، إنت تمشى!”

ثم كان عرسا فى الميدان، ثم موسيقى، وفى كل مكان حلقات من الناس فى حديث ونقاش. تنتقل الفكرة من حلقة إلى حلقة وتصل الأفكار الأكثر رواجا إلى إذاعة الميدان ــ أحد أربعة ميكروفونات على منصات. أتوقف بجانب حلقة فيدعوننى فى الحال إلى الجلوس ويفسحون لى مكانا، الكل يُعَرِف بنفسه قبل أن يتحدث: مدرسة، ثلاثة موظفين، نقاش، شابتان تعملان فى محل للملابس. الكل يحكى عما أتى به إلى التحرير، «فى الآخر»، يقول النقاش الشاب، «هى الحاجة الأساسية: البنى آدم محتاج حرية».

التعليقات