ــ «السياسة العلمية» ظهر فى الستينيات ويعنى كيفية استخدام الحكومات لموارد الدولة لتطوير البحث العلمى لتحقيق الحاجات الأساسية والرفاهية لشعبها
ــ التقدم التكنولوجى أحد العناصر الحاسمة فى التاريخ لصعود الدولة إلى مصاف الدول المتقدمة
نحن فى عصر يكثر فيه الحديث عن السياسة والاقتصاد والأزمات الطاحنة التى تستعر فى مناطق كثيرة من العالم، لكن نادرا ما يتكلم الناس عن العلم، وعندما يتكلمون يكون الكلام عن بعض الاكتشافات العلمية المثيرة أو ما تجعلها الصحافة مثيرة هنا أو هناك أو بعض الشخصيات فى المجال العلمى التى لمع نجمها نتيجة الحصول على جائزة مرموقة أو أفل نجمها نتيجة فضيحة مدوية. كل ذلك لا يخرج عن نطاق التسلية، ما نريد الحديث عنه هو سياسة من نوع خاص، سياسة مؤثرة فى أقدار الدول ومجرى التاريخ، السياسة العلمية للدول.
...
ما هى السياسة العلمية للدول؟ تعبير «السياسة العلمية» ظهر فى الوجود فى ستينيات القرن الماضى ويعنى كيفية استخدام الحكومات لموارد الدولة لتطوير البحث العلمى والتكنولوجى فى سبيل تحقيق الحاجات الأساسية والرفاهية لشعبها. هذا تعريف عام يحتاج إلى تفصيل:
• أولا هناك موارد للدولة.
• ثانيا جزء من هذه الموارد سيذهب للبحث العلمى وجزء سيذهب للتكنولوجيا.
• ثالثا هناك حاجات أساسية ورفاهية يجب تحقيقها، بعض هذه الحاجات عام لكل الدول وبعضها الآخر خاص بكل دولة لأنه يعتمد على موقعها الجغرافى وتأثيرها التاريخى ومواردها الطبيعية وطبيعة شعبها.
حتى تبنى الدولة سياستها العلمية يجب أن تكون على علم كامل بتلك العناصر الثلاثة، وقبل ذلك يجب أن تؤمن بأهمية وجود سياسة علمية للدولة.
...
ما أهمية وجود سياسة علمية للدولة؟ التقدم التكنولوجى هو أحد العناصر الحاسمة فى التاريخ التى تساعد على صعود الدولة إلى مصاف الدول المتقدمة على جميع المستويات العسكرية والاقتصادية إلخ، مثلا على المستوى العسكرى امتلاك أسلحة ردع والقدرة على حماية الحدود يحتاج إلى تكنولوجيا متقدمة، تصنيع هذه التكنولوجيا محليا أفضل من الناحية الاقتصادية وأفضل أيضا من ناحية أن الدولة التى تستورد تكنولوجياتها من الخارج لن تضمن الحصول على التكنولوجيا الأكثر تقدما وستضع نفسها تحت سيطرة الدول المصدرة من ناحية الصيانة والتطوير. الاقتصاد يتأثر بالتكنولوجيا من جهات عديدة: منها تقليل الاستيراد والإكثار من التصدير ومنها القدرة على البناء والتشييد بسرعة وكفاءة عالية ومنها تقديم الخدمات للمواطنين بسرعة ودقة، كل هذه العوامل تساعد على نمو الاقتصاد الذى يصب جزء منه فى تطبيق السياسة العلمية الذى بدوره يحسن الاقتصاد وتظل الدائرة تدور لمصلحة الوطن. الآن وقد عرفنا أهمية وجود سياسة علمية للدول، كيف تحدد كل دولة سياستها العلمية؟
...
الخطوة الأولى لتحديد السياسة العلمية هى معرفة أنواع البحث العلمى؛ لأن العلم هو الخطوة الأولى، نجاح البحث العلمى يليه تحويل هذا النجاح إلى تكنولوجيا.
• العلوم تنقسم إلى علوم طبيعية مثل الكيمياء والفيزياء والأحياء وإلى علوم إنسانية مثل علم النفس والاجتماع إلخ.
• العلوم الطبيعية يمكن أن تكون علوما تطبيقية أو علوما أساسية، العلوم الأساسية هى العلوم التى تبحث فى أساسيات الكون والحياة التى نعيشها مثل الأبحاث التى تبحث فى كيفية عمل الخلية الحية أو مما تتكون الذرة إلخ، أما العلوم التطبيقية فهى تستخدم نتائج العلوم الأساسية لحل مشكلة وأوضح مثال لذلك هو الطب والهندسة.
• نتائج البحث العلمى قد تظهر سريعا أى على المدى القصير (من أيام وحتى عدة شهور أو سنة) أو تتأخر للمدى المتوسط (حتى خمس سنوات مثلا) أو الطويل.
فى خضم كل تلك التعريفات يجب أيضا أن نفرق بين البحث والتطوير، البحث هو محاولة إيجاد حل لمشكلة بحثية تطبيقية كانت أو أساسية مثل كيف يمكن تصميم سيارة ذاتية القيادة، أما التطوير فهو وجود الحل فعلا لكن نريد تحسينه مثل كيف نجعل تلك السيارة ذاتية القيادة أسرع فى الحركة وتستهلك طاقة أقل.
السياسة العلمية للدولة إذا هى الإجابة عن الأسئلة التالية: فى الموقف الاقتصادى ومع وجود الموارد الحالية: هل نعمل على العلوم الأساسية أم التطبيقية؟ هل نركز على العلوم الطبيعية أم الإنسانية؟ هل نكتفى بالتطوير أم نعمل فى البحث؟ وفى الإجابة عن كل سؤال يجب أن نذكر المجالات التى نركز عليها وما هو المدى الزمنى المطلوب.
لنحاول الإجابة عن تلك الأسئلة فى حالة مصر.
...
فى حالة مصر يجب أن نعرف أولا ما هى الموارد التى نستطيع إعطاءها للبحث العلمى والتطوير التكنولوجى، هذا يعطينا فكرة عن حجم البحث العلمى الذى يمكن أن نقوم به.
• العلوم الإنسانية مهمة لأن الإنسان هو من يقوم بالبحث العلمى والتطوير التكنولوجى، لذلك يجب أن نهتم بالإنسان. يجب أن يكون هناك جزء من الميزانية المخصصة للبحث العلمى للعلوم الإنسانية، الجزء الأكبر سيكون للعلوم الطبيعية، النسبة يمكن أن تتغير فى المستقبل لكننا الآن نواجه تحديات متعلقة بالموارد الطبيعية والغذاء إلخ يجب أن نجد لها حلولا سريعة.
• الحاجة إلى حلول سريعة معناه أننا فى الوقت الراهن يجب أن نركز على الأبحاث التطبيقية ذات النتائج التى تظهر فى المدى القصير والمتوسط.
• المجالات التى لها الأولوية هى المجالات المتعلقة بالأمن القومى مثل الأمن الرقمى (أى السيبرانى) والأمن الحدودى وتأمين الغذاء. لهذا نحتاج أبحاثا فى جميع مجالات هندسة وعلوم الحاسب من أجل الأمن السيبرانى ونحتاج أبحاثا متعلقة بالمياه والزراعة لتأمين الغذاء. أبحاث المياه والزراعة يمكنها الاستفادة من الذكاء الاصطناعى وإنترنت الأشياء.
• للقيام بالأبحاث فى المجالات المذكورة يجب أن تكون عندنا كوادر مدربة وهو ما يضع التعليم فى بند الأمن القومى.
• بعد المجالات المتعلقة بالأمن القومى تأتى الأبحاث المتعلقة بالصحة.
• تأتى بعد ذلك الأبحاث المتعلقة بالطاقة ومنها توليد الطاقة النظيفة وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفورى وتقليل استهلاك الطاقة عن طريق تطوير مولدات وشبكات أكثر كفاءة مع توعية الناس.
هذه مجرد نظرة أولية لكن السياسة العلمية تحتاج نظرة أكثر عمقا وهو ما سنتكلم عنه مستقبلا.