الأرقام لا تكذب لكنها تتجمل - محمد زهران - بوابة الشروق
السبت 12 يوليه 2025 9:27 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

ما هي توقعاتك لمصير وسام أبو علي في المرحلة المقبلة؟

الأرقام لا تكذب لكنها تتجمل

نشر فى : الجمعة 11 يوليه 2025 - 8:45 م | آخر تحديث : الجمعة 11 يوليه 2025 - 8:45 م

هناك نكتة طريفة كنا نسمعها منذ أن كنا فى الجامعة وتقول الآتى: شخص أمريكى وآخر سوفييتى (وقتها) تنافسوا فى مسابقة لم يتنافس فيها غيرهما، الأمريكى فاز وحصل على المركز الأول، وبالتالى السوفييتى حصل على المركز الثانى، الصحف الأمريكية كتبت: حصل الأمريكى على المركز الأول والسوفييتى على المركز الأخير، بينما كتبت الصحف السوفييتية: حصل السوفييتى على المركز الثانى بينما حصل الأمريكى على المركز قبل الأخير. الجميع صادقون لكن طريقة الطرح تعطى انطباعًا مختلفًا لكل خبر منهما، وهذا ما سنتحدث عنه اليوم.

نحن فى عصر البيانات الغفيرة (big data)، هذه البيانات تتحول إلى أرقام، طريقة عرض تلك الأرقام تعطى رسالة قد تكون صحيحة وقد تكون مبالغا  فيها حتى إنها تقترب من حدود الخطأ. نحن لا نتكلم عن الأرقام الخاطئة، لأن ذلك تزوير صريح لكن نتكلم عن أرقام صحيحة يتم عرضها أو يتم استخدامها للوصول إلى استنتاجات قد لا تعطى الصورة الصحيحة أو الدقيقة. هذا موضوع مهم جدًا لعدة أسباب:

     •    تحليل الأرقام وطرح التساؤلات الدقيقة حولها تمارين ممتازة على التفكير النقدى، الباحث الذى يقوم بتجارب ويجمع الكثير من الأرقام يحتاج إلى أن يحللها بدقة وبطريقة نقدية حتى يصل إلى استنتاجات صحيحة.

     •    معرفة كيفية تحليل الأرقام يساعد على إتقان وسائل عرض تلك الأرقام بالطريقة المثالية حتى تعطى النتيجة التى نود توصيلها للقارئ، هذا مهم للباحثين إذ إن طريقة عرض النتائج من أهم أسس الكتابة العلمية الناجحة.

     •    حتى القارئ العادى سيستطيع قراءة الأخبار من مختلف الوسائل بطريقة أكثر دقة وسيبنى عقلية تحليلية تساعده على فهم الأخبار التى تحتوى على أرقام أو إحصاءات بطريقة صحيحة.

بعض الأمثلة عن الاستخدام غير الدقيق للأرقام ثم نتحدث عن الوسائل التى تُستخدم للتلاعب بالأرقام دون استخدام أرقام خاطئة. 

• • •

عندما نرى تقارير من منظمات عالمية تدعو الدول إلى عمل مشروعات معينة، لأنها ستؤدى إلى خلق وظائف كثيرة، هذا جيد، لكن كى نتأكد من ذلك يجب أن نعرف عدة أشياء: ما هو العدد المتوقع لتلك الوظائف؟ هل هى وظائف دائمة (مثلاً تستمر أكثر من سنة) أم مؤقتة؟ ما هى الوظائف التى سيقضى عليها هذا المشروع؟

إذا رأينا أن عدد الاستشهادات بأبحاث أحد الباحثين تبلغ عدة آلاف، هذا ممتاز، لكن إذا كان السواد الأعظم من الاستشهادات منه هو شخصيًا أى أنه يستشهد بأبحاثه السابقة فى أبحاثه الحالية فهذا معناه أن هذا الباحث ليس بالقوة التى كنا نظنها.

إذا علمنا أن باحث نشر مئات الأبحاث، فهذا جيد، لكن إذا علمنا أن أغلب المجلات أو المؤتمرات التى نشر فيها ضعيفة فإن هذا معناه أن الباحث ضعيف حتى وإن كان عدد أبحاثه كبيرًا.

من المهم معرفة الطرق التى يتم استخدامها لتوصيل رسائل غير دقيقة حتى وإن كانت الأرقام صحيحة.

• • •

هناك وسائل عديدة للتلاعب بطرق عرض الأرقام لإعطاء رسائل غير دقيقة، منها على سبيل المثال لا الحصر:

     •    عرض فقط بعض الأرقام المتعلقة بتجربة أو مشروع دون بقية الأرقام، مثلاً عند تحليل استخدام تكنولوجيا جديدة يتم عرض لعدد الوظائف التى ستخلقها تلك التكنولوجيا دون عرض الوظائف التى ستختفى نتيجة استخدام تلك التكنولوجيا.

     •    عرض متوسط الأرقام عندما تكون الأرقام غير موزعة توزيعًا عادلًا، تخيل مرتبات ثلاثة أشخاص، الأول يحصل على 22 ألف جنيه، أما الثانى والثالث فيحصل كل منهما على ألف جنيه، بهذا يكون متوسط المرتبات ثمانية آلاف جنيه. طريقة الحساب صحيحة لكنها لا تظهر أن الشخص الأول يحصل على مرتب أعلى بكثير من الاثنين الآخرين.

     •    إظهار الأرقام والإحصاءات لبعض التجارب فقط وإغفال التجارب الضعيفة أو الفاشلة.

     •    إظهار رقم لا يكفى وحده لإظهار الكفاءة، مثلاً عندما يفتخر أستاذ جامعى أنه أشرف على خمسين رسالة ماجستير ودكتوراه لكن مستوى الطلاب الذين درسوا معه ضعيف، بالتالى هذا الأستاذ أسوأ من الذى أشرف على عشرة طلاب فقط لكن مستواهم قوى وأفادوا بلدهم.

     •    عرض أرقام دون شرح الموقف كاملاً، مثلاً إذا قلنا إن هذا الباحث نشر ضعف الأبحاث فى العام الحالى مقارنة بالعام الماضى، وبالتالى هو باحث ممتاز وقوى، لكن قد يكون هذا الباحث قد نشر بحثًا واحدًا فى العام الماضى وبحثين فى هذا العام، وبالتالى هو ليس بالكفاءة التى تصورناها.

     •    استخدام عدد صغير من العينات للوصول إلى استنتاج خاطئ، مثلاً إذا قلنا إن 90% من الناس التى تم سؤالها وافقت على الفكرة، ويكون الاستبيان قد شمل عشرة أشخاص فقط، هذا الخطأ يحدث فى الأبحاث التى تعتمد على استبيانات.

     •    عدم التدقيق فى العلاقة بين التأثير والسبب عن طريق إغفال عوامل أخرى، مثلاً إذا وجدنا أن 90% ممن تزيد ثرواتهم على عشرة ملايين جنيه يشربون الشاى فنستنتج أن شرب الشاى يساعد على زيادة الثروة، لكننا أغفلنا أن أغلب الشعب حتى الفقراء منهم يشربون الشاى.

ما ذكرناه أعلاه هو غيض من فيض، هناك طرق عديدة لتوصيل رسالة غير صحيحة أو الوصول لاستنتاج خاطئ، لذلك التدقيق فى الأرقام والتفكير النقدى يساعدان على الفهم الصحيح.

• • •

كما قلنا إن الأرقام والإحصاءات هى عصب عصرنا الذى يعتمد عليها فى كل شىء من أول الأخبار العادية فى وسائل الإعلام وحتى تطبيقات الذكاء الاصطناعى، لذلك هناك بعض الخطوات نستطيع القيام بها حتى نجعل باحثينا وحتى الشخص العادى بارعين فى فهم البيانات وتحليلها:

     •    يجب تدريس لطلابنا طرق التفكير النقدى وفن إلقاء السؤال الصحيح عند تحليل نتائج أو أرقام، ويتم ذلك لطلبة البكالوريوس وطلاب الدراسات العليا.

     •    يجب عقد ورشات عمل للعامة لشرح طرق التفكير النقدى بطريقة مبسطة.

     •    يجب الاهتمام بعلوم البيانات (data science) والتفكير فى إنشاء أقسام متخصصة فى الجامعات أو تدريس مواد علوم البيانات فى أقسام علوم وهندسة الحاسبات.

الأرقام والبيانات هى عصب العصر الحالى ودماء الحياة لأغلب التكنولوجيات، فيجب أن نتعامل معها بالطريقة الصحيحة.

محمد زهران عضو هيئة التدريس بجامعة نيويورك فى تخصص هندسة وعلوم الحاسبات، حاصل على الدكتوراه فى نفس التخصص من جامعة ميريلاند الأمريكية، له العديد من الأبحاث العلمية المنشورة فى الدوريات والمؤتمرات الدولية، بالإضافة إلى الأبحاث والتدريس.. له اهتمامات عديدة بتاريخ وفلسفة العلوم ويرى أنها من دعائم البحث العلمى، يستمتع جداً بوجوده وسط طلابه فى قاعات المحاضرات ومعامل الأبحاث والمؤتمرات، أمله أن يرى الثقافة والمعرفة من أساسيات الحياة فى مصر.
التعليقات