تحدثنا فى مقال الأسبوع الماضى عن خصائص الجامعات التى نريدها فى بلادنا حتى نحقق ما نأمل من تقدم علمى واقتصادى. مقال اليوم يحاول اختراق حجب الغيب والنظر للمستقبل، كيف ستكون الجامعات فى المستقبل؟ وهل هذا هو الشكل الذى نريد؟ أم أن هناك فارقا بين ما نتوقع أن نرى فى المستقبل وما نأمل أن نرى؟
قبل أن نبدأ النظر للأمام يجب أن نسأل أولا لماذا نتوقع أن تتغير الجامعات فى المستقبل؟ هناك عاملان أساسيان: التكنولوجيا ونوعية الطلاب.
تكنولوجيا الذكاء الاصطناعى وتكنولوجيا الاتصالات ستغير شكل الجامعات كما نعرفها، الذكاء الاصطناعى سيكون بمثابة مساعد ومدرس خصوصى لكل طالب. تكنولوجيا الاتصالات (ليس كما نعرفها الآن لكن فى صورتها المستقبلية) ستساعد الطالب على حضور المحاضرات والحديث مع الأساتذة والزملاء بطريقة أفضل كثيرا مما نرى الآن، المستقبل سيحمل تكنولوجيا الواقع المعزز (augmented reality) بطريقة أفضل من الجيل الحالى بحيث يحضر الطالب فى قاعة المحاضرات وهو جالس فى بيته، والمستقبل قد يحمل مفاجآت لا نعرفها.
الطلاب أيضا سيكونون مختلفين عن جيلنا، بل وعن الجيل الحالى، صفاته (ما لم نتدارك الأمر) ستكون كالآتى:
• فى عصر انتفت فيه الحاجة للحفظ سيأتى جيل لا يحفظ شيئا، هذا شىء سيئ، ليس لأننا نريد من الطلاب حفظ المعلومات، لكن هناك حدا أدنى من القواعد فى أى مجال يجب أن تكون فى أذهاننا، مثلا ما هى أفضل المجلات العلمية فى تخصص معين؟ أو ما أفضل معادلة لحل تلك المشكلة؟
• الجيل الحالى وفى الأغلب الأجيال القادمة درجة تركيزه قليلة جدا نظرا لإدمانه مواقع التواصل الاجتماعى التى تعتمد على جمل قصيرة أو فيديو أو صورة، وبالتالى تضاءلت جدا قدرات هذه الأجيال على قراءة تقرير طويل ناهيك عن قراءة كتاب، من المنتظر أن تعتمد هذه الأجيال على برمجيات الذكاء الاصطناعى التى تلخص الكتب والتى تكتب التقارير.
• الأجيال الجديدة أغلبها تدمن ألعاب كمبيوتر التى تعتمد على الحركات السريعة التى لا تترك وقتا للتفكير. هذا معناه الحركة قبل التفكير وهذا فى الكثير من الأحيان يؤدى إلى التسرع.
• الأجيال الجديدة لا تقبل النصيحة المباشرة وتعتبرها وصاية. جيلى والأجيال السابقة على جيلى كانت تبجل وتحترم أساتذتها وتعتبرهم منابع العلم والحكمة. الأجيال الحالية تستطيع الحصول على المعلومة (وليس الحكمة) عن طريق الإنترنت وأيضا ترى هذه الأجيال أن أساتذتها تضع بعض «البوستات» على مواقع التواصل الاجتماعى توضح جهلهم ببعض الأشياء، هذا أضاع المهابة التى كنا نحتفظ بها لأساتذتنا فى مرحلة ما قبل مواقع التواصل الاجتماعى. هنا تحتاج هذه الأجيال الجديدة أن تعرف أن المهابة والاحترام تنبع من إحساسنا بالامتنان لما تعلمناه من أساتذتنا ومن نصائحهم التى أفادتنا فى حياتنا، ولم تنبع من أنهم يعرفون كل شىء ولا يخطئون.
العملية التعليمية يجب أن تتغير لأن طبيعة التكنولوجيا وطبيعة البشر تغيرت بشكل كبير. كيف ستكون الجامعات فى المستقبل فى ظل هذه التغييرات؟
• • •
لماذا يتسابق الطلاب لدخول جامعات ذات أسماء رنانة؟ فى هذا العصر الرأسمالى القاسى الذى تتحكم فيه شركات عابرة للقارات تتجاوز القيمة السوقية لبعضها اقتصاد دول فإن الطلاب يحلمون بالالتحاق بتلك الشركات، أو يحلمون بإنشاء شركة تستحوذ عليها فيما بعد إحدى تلك الشركات. إذن الاقتصاد هو الدافع، طموح الجيل الحالى هو الشهرة والمال.
تلك الشركات الكبرى يهمها المهارات التى يتمتع بها الطالب بغض النظر عن اسم الجامعة، إذا نظرنا نظرة تشاؤمية للمستقبل فقد نجد الآتى:
• سيعتمد الشباب على تنمية المهارات التى تحتاجها تلك الشركات، تنمية هذه المهارات سيكون عن طريق برمجيات الذكاء الاصطناعى بدون الحاجة إلى الذهاب لأية جامعة. باستخدام الأجيال المستقبلية لبرمجيات الذكاء الاصطناعى وتكنولوجيا الواقع الافتراضى والمعزز سيكون لكل طالب مدرس خصوصى لا يمل ويعلم الطالب تبعا لطريقة تعلم هذا الطالب، وليس أستاذا يشرح بنفس الطريقة لكل الطلاب. إذا بدأت الشركات تقبل هؤلاء الشباب ولا تهتم بالشهادة الجامعية فمستقبل التعليم الجامعى فى خطر.
• فى العصر الرأسمالى القاسى الذى نعيشه، والمشكلات الاقتصادية التى تواجهها كل الدول تقريبا فإن الأبحاث التطبيقية أى التى تحل مشكلة أو تؤدى إلى منتج هى فقط التى ستدعمها الشركات والحكومات، وبالتالى الأبحاث المعتمدة فقط على الفضول العلمى أو التى لن تؤدى إلى نتائج على المدى القريب لن تحصل على تمويل، وهذا سيؤدى إلى تضاؤل البحث العلمى فى الجامعات وسيتركز فقط فى الشركات الكبرى. هذا بدوره سيؤدى إلى تضاؤل أعداد الحاصلين على درجات الدكتوراه.
• يمكن أن تصبح أغلب الجامعات موجودة فى الفضاء السيبرانى فقط لأن الطلاب يمكنهم حضور المحاضرات والاجتماعات وعمل الأبحاث عن طريق الواقع الافتراضى والمعزز، أى يمكن لطالب حضور محاضرات فى جامعة هارفارد وهو فى بيته فى الإسكندرية مثلا. هذه النقطة بالذات تحتاج بعض التفكير لأن التجربة الجامعية هى تجربة ثقافية بالإضافة إلى كونها علمية، فهل الواقع الافتراضى والمعزز سيمكنه تغطية الجانب الثقافى؟ حاليا الإجابة بالنفى، لكننا نتكلم عن المستقبل.
هذا السيناريو تشاؤمى بالنسبة للجامعات، ولا نتصور عالما بلا جامعات حقيقية لا افتراضية. ماذا نستطيع عمله لتجنب هذا السيناريو؟
• • •
نأمل أن تستخدم الجامعات الذكاء الاصطناعى لتحسين التدريس وليس فقط لكشف الغش ووضع الامتحانات وتصحيحها، تخيل وجود مدرس خصوصى لكل طالب على هيئة برمجيات ذكاء اصطناعى يساعده على التعلم، ووجود أستاذ بشرى يتناقش مع الطلبة وجها لوجه حول أهمية كل مادة علمية وكيفية استخدامها لخير البشرية وكيف تؤثر وتتأثر بالعلوم الأخرى، هكذا نحصل على أفضل تجربة تعليمية وتثقيفية ممكنة.
نأمل أن نرى الجامعات المختلفة تتشارك فيما بينها فى التدريس والبحث العلمى عن طريق وسائل الاتصالات المعتمدة على إنترنت فائق السرعة وأجهزة قوية للواقع الافتراضى والمعزز.
نأمل أن يكون هناك دائما خط اتصال بين الشركات الكبرى والجامعات بحيث تعرف الجامعات المهارات التى تحتاجها الشركات، وتتعرف الشركات على الأبحاث المستقبلية التى لا مردود لها على المدى القصير لكنها تعطى إرهاصات لما هو قادم مما يساعد الشركات على تحديث استراتيجيتها بشكل مستمر.
نأمل أن يدرس الطلاب الجانب العلمى والجانب الإنسانى، نحن نريد تخريج باحث إنسان وليس باحثا مجرد ترس فى ماكينة بلا قلب، لذلك تدريس بعض العلوم الإنسانية وربطها بالعلوم التطبيقية مهم جدا.
• • •
يجب أن نستعد من الآن بالتفكير فى كيفية إدماج التكنولوجيا فى العملية التعليمية، وليس فقط تدريس التكنولوجيا، ويجب التفكير فى مستقبل الجامعات فى ظل التطور التكنولوجى والتدهور الإنساني.