اجتاحنا هذا الڤيروس العجيب الغريب إذ فجأة فأربكنا، جعلنا نتقاذف مسؤوليته كما لو كنا نتقاذف كرة كبيرة من اللهب، في مقابل من يتهم أمريكا بالمسؤولية هناك من يتهم الصين ونحن محشورون بين نظريتين للمؤامرة لهما القدر نفسه من الوجاهة والحماقة معاً. عموماً لم تحن بعد ساعة معرفة الحقيقة ولعلها قد لا تحين أبداً. أغلَق الڤيروس حدودنا وباعد بين مسافاتنا، زحم نشرات أخبارنا وسّود عناوين صحفنا، كتم أنفاسنا وأطلق دعاءنا، وفي بعض الأحيان أثار دعابتنا. ڤيروس شرير وجامح يحصد في اليوم الواحد مئات الأرواح، نفاذيته تفوق الخيال ووسائطه كل الأشياء: الورق.. المعادن.. الخشب.. القُبَل ولا ينقصه سوى الانتشار عبر الأفكار. إنه يُبرّد مشاعرنا ويُقطّع أوصالنا، يلجم انفعالاتنا تجاه أحبائنا ويبذر الشك فيمن حولنا. ومع أن حركة كبار السن هي الأبطأ، ومع أن أسفارهم قليلة وتنقلاتهم محدودة إلا أنهم الأشد تعرضاً للإصابة لأنهم الأضعف. هكذا صارت هذه الفئة من البشر تمثل حِملاً ليس يدري العالم علي أي مقلب يلقيه، والبقاء للأقوى قاعدة لا تسري فقط على العلاقات الدولية لكنها تسري أيضاً على العلاقات الإنسانية، إنها قاعدة قديمة على أي حال بل هي تكاد أن تكون ملازمة لبدء الخليقة ذاتها.
***
على مدار عقود وعقود خادَع الغرب أو بعضه كبارَ السن، مضى يطوّر تجاربه حتى يصير العمر أطول والصحة تمام التمام، جعل العمر المتوقع عند الميلاد مؤشراً على التقدم، واعتمد معايير غير اقتصادية للتنمية فوسّع نطاقها ووصفها بأنها "إنسانية". هكذا ظن المسنون، وكان ظنهم إثماً كبيراً، أن أمامهم براح وأن لديهم أمل وأن بيدهم فرصة، ثم وعند أول اختبار كبير تواجهه البشرية كهذا الاختبار الڤيروسي الأخير فوجئوا ألا مكان لهم في الحاضر دع عنك المستقبل. سُحب منهم حقهم في الحياة بقسوة، وخرج من يقول لهم إن المواد الطبية المتاحة لا تكفي الجميع، والحال هذه فالأولوية يجب أن تكون للشباب. هذا الوضع مربك جداً في الحقيقة، فهل من المفترض أن يفرح المسنون لأن هذا التمييز بينهم وبين الشباب يعطي قبلة الحياة لأبنائهم وأحفادهم الذين هم قرة عيونهم؟ أم هل من المفترض أن يشعروا بالخديعة لأن هذا الغرب الذي استدرجهم لعمر الستين والسبعين والثمانين تخلى عنهم في لحظة قائلا لهم لقد نفد رصيدكم؟.. المشاعر فيها من هذا وذاك. محبّة الأبناء والأحفاد لاشك فيها، إنهم الرئة والنبض والأمل وهم الحياة، هذا جانب، لكن على الجانب الآخر هناك شعور عميق بالخديعة، خدع الغرب كبار السن حين أفهمهم أن الاستمتاع بالحياة يبدأ بعد التقاعد فصدقوه، صدقوه لأن الغرب لا يكذب وهو لا يحب من يكذب، صدقوه وبلعوا الطُعم بإرادتهم لأنه كان على هواهم. أغوتهم التذاكر بأسعارها المخفضة التي تجعل المتاحف والمسارح والمتنزهات في متناولهم، وظنوا أنه كما توجد لهم مقاعد مخصصة في عربات المترو والأوتوبيس والقطار فإن لهم أماكن مماثلة في المستشفيات ولهم أسّرة في غرف العناية المركزة ونصيب في الدواء. فرحوا بطب التجميل وراقبوا التجاعيد تنحسر عن جباههم وارتاحوا لفكرة أن الشباب مصدره القلب، توهموا أن لقب senior citizen الذي حملوه هو مكافأة نهاية خدمتهم بحق وحقيق وأخذوا وضعهم في المجتمع.. ثم إذا بريح عاتية تطيح بهم.. تطيح بتذاكرهم ومقاعدهم ومساحيقهم وتطيح بآدميتهم.
***
أسقط ڤيروس كورونا القناع عن الغرب أو بعضه، فإذا بقسوته تتجلى بتعابير مختلفة، فهذا مسؤول ينبه شعبه إلى ضرورة الاستعداد لمفارقة الأحبة، وذاك مسؤول يصارح شعبه بأن البقاء للأصغر، والتعبيران يوجد بينهما ارتباط وثيق بالمناسبة، فالأحبة المتأهبون للفراق هم الأعجز والأضعف. تَطَور التمييز ضد كبار السن بالتدريج من استكثار حقهم في التصويت إلى إنكار حقهم في الوجود، وتحور السؤال من: لماذا ينتخب المسنون ويمتنع الشباب، إلى: لماذا يريد المسنون أن يأخذوا زمانهم وزمان غيرهم؟ هل يطمع المسنون فعلاً في غير زمانهم؟ هذا سؤال عجيب والله، هل رأينا من قبل أحداً يأخذ زمان غيره؟ لم نر ذلك، وهم لأسابيع قليلة خلت كانوا يعيشون في هذا الزمان ويتصورون أنهم منه، ثم حل الوباء فتغير الحال وصاروا دخلاء على الألفية الثالثة. في الفم ماء، وفي أفواه أخرى كثيرة يوجد ماء. الشباب بالنسبة للقارة الأوروبية العجوز هو إكسير الحياة، فالقارة تكبر وتشيخ والشباب ينحسر، ولم يعد ينقص القارة إلا هذا الوباء الذي يجرف كل من يلقاه في طريقه، فالتدخل مطلوب وتوجيه الطوفان الوجهة المناسبة أمر لا بد منه.
***
بينما أكتب السطور الأخيرة في هذا المقال بلغني أنه تقرَر في نفحة "إنسانية نبيلة" أن يدخُل المسنون في دائرة المشمولين بعلاج الكورونا، مرة أخرى فإن هذا وضع مربك جداً، فهل يجب أن يشعر المسنون بالألم لأن التخلص منهم كان خيارا أول لبعض الحكومات الغربية على طريقة الموت الرحيم؟ أم هل يجب عليهم أن يشعروا بالارتياح لأن هناك حول العالم من تعاطف معهم وضغط من أجلهم ورفع صوته دفاعاً عن حقهم في الحياة؟ المشاعر فيها من هذا وذاك لكن الأمر المؤكد أن مساحة الألم أكبر، هو مؤلم أن يتركوك تعيش وسطهم تحت الضغط، ومؤلم أن يداووك فقط من باب الإحراج، ومؤلم أن تغتصب هواء ليس لك لمجرد درء العتب، مؤلم؟ لا إنه مؤلم جداً.