حجة فى الشأن الكردى، فهو أول مصرى تخصص فى الشأن الكردى، يحفظ كردستان العراق عن ظهر قلب، مدنها وقراها وشخصياتها وأحوالها، ساقه القدر لهذا التخصص النادر حتى صار مرجعية فيه كما ساقه القدر لحياة صعبة مليئة بالمغامرات.
ولد فى أوائل الأربعينيات فى إحدى قرى السنطة غربية، ولادته كانت متعسرة جدا حتى كادت أن تموت والدته لأنه ولد بالمقعدة وليس برأسه ككل الأطفال، كانت كلما تصرف تصرفا لا يعجبها ولا يروق لها تقول له: «أصلك من يومك واخد الدنيا بالمشقلب».
تعرض فى طفولته للإصابة بالرمد فى إحدى عينيه، عالجه حلاق القرية بـ«ششم الديك» فترك سحابة على إحدى عينيه وفقد البصر بها، فلم يكن هناك طب حقيقى فى مصر عامة وقراها خاصة.
عبث فى ماكينة تذرية القمح فدارت تروسها على أصابعه فصرخ صرخة مدوية، جاءوا ببرطمان البن وكبسوا الجرح به كعادتهم حتى حضر الحلاق فقال: الأمر أكبر منى، ذهبوا به إلى المستشفى الأميرى بطنطا، خيطوا الجرح «كلشنكان» حسب رأيه فترك تشوها دائما فى أصابعه.
بعد ثورة 23 يوليه كانت الأسر المصرية تتمنى مصاهرة الضباط، وكان ينظر إلى أى ملازم وكأنه اللواء محمد نجيب «رئيس الجمهورية» شقيقه ضابط الجيش زاد مكانة أسرته فخرا.
عاش حياة الريف كلها بأفراحها وأحزانها ومكايداتها التى لا تنتهى فى الزواج وانتخابات العمودية أو الاتحاد القومى أو الاشتراكى أو حتى الجمعية الزراعية، وكم سالت دماء بسبب الصراعات التافهة، فما أتفه صراعات الحياة ليس فى مصر وحدها بل فى الشرق الأوسط كله.
لقد خلص صاحبنا إلى أن كل التنظيمات السياسية التى دخل فيها وساهم فى نشاطاتها كانت وهما كبيرا واستغلالا سياسيا للإنسان المصرى لخدمة الحكم لا لخدمة الوطن نفسه، وترسيخا لدعائم الحكم لا ترسيخا لدعائم الوطن، وأن الأعمار التى وهبت لها أصبحت هباءً مبثورا.
كانت الحماسة والوطنية متدفقة فى عهد ناصر ففى السنة الأولى الثانوية لصاحبنا حدث العدوان الثلاثى على مصر سنة 1956 قامت المدرسة بمظاهرة ضخمة هاتفة ضد العدوان ومطالبة بالتطوع للمعركة، حاولت إدارة المدرسة فض المظاهرة دون جدوى، حتى جاء مسئول كبير من المحافظة، حيا فيهم روح الوطنية وحاول إنهاء مظاهرتهم دون موضوع التطوع للتدريب ولكن باءت محاولاته بالفشل، فقال لهم: إذا ستصل اللوارى التى ستحملكم إلى مراكز التدريب بعد قليل ومن يريد ركوبها يظل فى حوش المدرسة، وأكد على أن الجميع وطنيون فالدراسة أيضا خدمة للوطن، تردد الطلاب الذين كانوا يهتفون «اليوم حرام فيه التعليم» أصبحوا الآن على المحك، انسحبوا واحدا بعد الآخر من الحوش.
كانت الشرطة تقتحم حملات دور السينما الصباحية وتقبض على الطلاب «المزوغين» من المدرسة وتسلمهم لأولياء أمورهم بعد أن تذكر كل منهم بهذا اليوم بعدة صفعات منهم ومن ولى أمرهم.
نظمت مجلة «الجيل» مسابقة لاختيار الشاب أبوعيون جريئة حسب أغنية عبدالحليم الشهيرة فاستشاط عبدالناصر غضبا وقال «جنودنا على خط النار وهؤلاء يفعلون هذا العبث»، فأمر بإلحاق المشاركين فى المسابقة بالتجنيد الإجبارى وقص شعرهم زيرو.
دخل صاحبنا كلية الزراعة رغم ميوله الأدبية والفكرية ومشاركته فى كل الأنشطة السياسية والفكرية بالكلية بدءًا من اتحاد الطلبة والاتحاد الاشتراكى وكذلك أسرة الميثاق والتى كانت على مستوى الجامعات المصرية كلها تحت رعاية الرئيس ناصر نفسه، ويشرف عليها محمد توفيق عويضة رئيس المجلس الأعلى للشئون الإسلامية الذى كان محل ثقة ناصر وكان ضابطا، ولا تدرى كيف يصبح ضابط مسئولا عن الشئون الإسلامية فى بلد يعج بأكابر العلماء والفقهاء.
قارن صاحبنا بين استقبال عويضة لأعضاء الأسرة بحفاوة وترحاب وبين استقباله للفائزين فى مسابقة البحوث الإسلامية بفتور، والغريب أنه كان نفس الشخص فى الحالتين، نفس الشخصين ونفس الموقفين والمعاملة مختلفة تماما، فالفائزون فى البحوث الإسلامية ليس من ورائهم نفع سياسى، أما أسرة الميثاق فهؤلاء هم قادة الدولة الجدد وأنصار الرئيس مستقبلا والذين سيتم تصعيدهم سياسيا.
علم بفوزه بالمركز الأول فى القصة القصيرة وكانت الجائزة عشرة جنيهات وكانت مبلغا معتبرا وقتها، اقترض كل الفائزين على حساب الجائزة من هذا وذاك، وفى حفل توزيع الجوائز وكان عقب نكسة يونيه أعلن رئيس الجامعة من تلقاء نفسه أن الفائزين تبرعوا بجوائزهم للمجهود الحربى انطلاقا من وطنيتهم، وقعوا فى حيرة كبيرة مع الدائنين.
عاش أيام الوحدة العربية بين مصر وسوريا وفخر بهذا الحدث التاريخى، وعاش أيضا مأساة الانفصال وحزنها، شغلهم عبدالناصر بعدها عن ذلك الفشل بمناقشات واسعة حول نظام سياسى جديد لم يتمخض عن شىء سوى مبدأ الحرية للشعب ولا حرية لأعداء الشعب، وأعداء الشعب من وجهة نظره هم «الأغنياء» وكأن الغنى والثراء جريمة يعاقب عليها صاحبها، ومن هنا تم تأميم آلاف الشركات والمؤسسات رغم أن بعضها ساهم فى المجهود الحربى المصرى أثناء العدوان الثلاثى، وتأميم هذه المؤسسات كان سببا مباشرا فى انهيار الاقتصاد المصرى بعد ذلك وحول هذه المؤسسات الناجحة إلى فاشلة.
شهد نكسة يونيه، تظاهر مع المتظاهرين عقب محكمة الطيران، هتف المتظاهرون «المحاكمة رواية، وين هى النهاية»، قبض على بعض الطلاب ولكن الرئيس ناصر أفرج عنهم بكلمة «ليست لنا مشكلة مع الطلاب».
تعرف بيوسف والى الذى كان معيدا وقتها بالكلية وصفه بالتدين والخلق الكريم، تعرف على توفيق عبدالحى وحكى قصة صعوده وكيف كان الرجل تاجرا بطبعه ويحسن استغلال أى فرصة تلوح له، رأى شخصيات غريبة وتعامل معها وصف بعضهم بأنه مثلا «يسارى على يمينى على متصوف، أى الشامى على المغربى»، لم يعرف أن طلاسم الشخصية المصرية يصعب حلها.
بعد تخرجه من كلية الزراعة وعمله التحق بالمعهد العالى للنقد الفنى، وتخرج منه وتعرف فيه على أساطين النقد والإعلام من مصر وغيرها، ومنهم د/رشاد رشدى وعواطف عبدالكريم ورفيق الصبان وسلوى حجازى ودرية شرف الدين.
فاز بجائزة التأليف المسرحى للأطفال عن قصة «أبوصير وأبوقير» تحولت إلى مسرحية للأطفال، وهناك تعرف على لينين الرملى وزوجته ويعقوب الشارونى، وهم الذين اختاروا له زوجته.
سافر للعمل بالعراق، لم يكن يعرف قبلها شيئا عن العراق أو الأكراد حتى قدر له العمل فى أربيل عاصمة كردستان العراق.
عاش هناك 9 سنوات أصبح واحدا منهم اكتسب ثقتهم، والكردى لا تستطيع كسب ثقته بسهولة، فهو يحيط نفسه بسياج من الشك فى كل أحد حتى إذا وثق صادق ووثق وأعطى بلا حدود.
اندمج مع الأكراد فى كل شىء حتى أصبح الخبير المصرى الأول فى الدراسات الكردية، صادق كل القيادات الكردية البارزة طالبانى وبارزانى ومعصوم، كان يردد كلمة «حكمت كريم» الشهير بـ«ملابختيار» لقد تخلى عنا العالم ولم يبق لنا من صديق سوى الجبل».
وصف عراق صدام جيدا، حياته فى كردستان والعراق تحتاج لمقال خاص آخر، كانت حياته عجيبة، لم يكمل طريقا حتى النهاية لأنه لم يتمتع بالكياسة والسياسة التى أوصلت غيره، قال فى حزن «لقد كان معى فى بداية الطريق من وصل إلى القمة لتبنيه سياسة الكياسة والتعايش مع تقلبات الحياة ومتناقضاتها.
اليوم أحاول أن أقنع نفسى بأننى كنت على صواب بكلمة المسيح بأننى ربحت نفسى رغم خسارتى للكثير، وعندما أراجع حياتى الآن أجد أن فى بعض فصولها خصومات كان يمكن تلافيها بقليل من الكياسة ولا أقول النفاقم، ولكن هل نستطيع أن نضع حدا فاصلا بين الكياسة والنفاق، فيبدأ الإنسان بما يراه كياسة فيربح وخلف إغراء الربح ينحرف لتصل به الأمور إلى لعق الأحذية، ورغم ذلك أحمد الله أننى حاولت أن أكون صادقا مع نفسى، هذه بعض كلمات المفكر الكبير ورائد الكرديات فى مصر أ/رجائى فايد والتى ذكرها فى كتابه الرائع «فصول من رحلة حياتى».. وإلى مقال قادم عن حياته فى كردستان العراق.