نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب «أحمد زايد» يتناول فيه التناقض بين الدولة المدنية الحديثة والدولة الشمولية، والأسس التى تقوم عليها كلا منهم والنجاحات والإخفاقات التى شهدتها الدول الشمولية فى تقديم نموذج للتنمية والسعى لتحقيق العدالة الاجتماعية.
فى البداية يستهل الكاتب حديثه بالقول أنه كثيرا ما نستدعى الحديث عن نُظم سياسية بعينها ونحن نتأمل طبيعة الدولة المدنية الحديثة وخصائصها. وأظن أننا بحاجةٍ ماسة إلى أن نتأمل طبيعة التناقض الذى يُمكن أن يقوم بين فكرة الدولة المدنية وفكرة الشمولية أو الحُكم الشمولى أو الدولة الشمولية. ويشير مفهوم الدولة الشمولية إلى الدولة التى تحتكر السلطات، وتسيطر على جميع أشكال النشاط، بما فى ذلك النشاط الاقتصادى، وتفرض نظاما واحدا وشاملا ــ غالبا عبر نظامٍ حزبى واحد وإيديولوجية شمولية تضع كل أفراد المجتمع على وجهة واحدة ــ لا يترك مجالا للتعددية أو للمُمارسات الديمقراطية الحرة.
وغالبا ما يوصف هذا النمط من الدول بأوصاف أخرى، كالدولة التسلطية أو الدولة الدكتاتورية. وفى إطار الدولة الشمولية، لا يَترك النظام السياسى مجالا من مجالات الحياة إلا ويخضعه للمُراقبة والضبط. وتقف النزعة الشمولية التى تَسم نظام الحُكم فى مثل هذا النَوع من النُظم، تقف فى مقابل الحياة المدنية، فى تدفقها وتعدد مناحيها ومساراتها. ونحن لا نفترض هنا أن النظام الشمولى يلغى الحياة المدنية أو يمحوها محوا، ولكننا نفترض أنه يضغطها ويجعلها أكثر عرضة لنُظم متعددة من الضبط والرقابة، ومن ثم تحجيم تدفقها فى المجتمع.
معروف أن فكرة الدولة الشمولية ظهرت فى إيطاليا على يد منظرى الفاشية والمُدافعين عنها. وكان هؤلاء المفكرون والفلاسفة، وعلى رأسهم الإيطالى جيوفانى جنتيلى (1875م ــ 1944م)، ومن بعده الفقيه القانونى الألمانى كارل شميت (1888م ــ 1985م)، يستخدمون المفهوم بمعنى إيجابى. فهو يشير إلى نَوعٍ جديد من الدكتاتورية، أو نَوعٍ جديد من الدول، يقوم على شمولية الأهداف وشمولية التمثيل. فالمجتمع يسعى إلى أهدافٍ قومية واحدة وشاملة؛ وتكتسب أيديولوجية الدولة شمولية، وقد نقول احتواء، لكل أعضاء المجتمع. تصبح الدولة فى هذا الظرف الشمولى صاحبة القول الفصل فى الأمور كلها؛ فلا شىء ضد الدولة، وكل شىء فى داخل الدولة، كما يقول موسولينى (1883م – 1945م ). وفى هذا الظرف تحتوى الدولة المجتمع كله؛ فلا يصبح للفرد كيانٌ، وتغدو ذاته خاضعة تماما لمتطلبات الأيديولوجيا. هذه الأيدولوجيا التى تُمذهب الأفراد ليل نهار فيستدمجونها ويتعايشون معها حتى وإن لم ترقَ إلى مستوى عقولهم وأرواحهم.
الحضور القاسى للدولة الشمولية
قد يكون هذا الفهم للدولة الشمولية فَهما إيجابيا بالمعنى الذى يركز على فكرة الضمير الجمعى (عند دوركهايم) أو الروح الجمعية أو الكلية (عند جوستاف لوبون) التى تتجه إلى تحقيق هدف واحد، والتى تجعل الدولة فى حالة تغير دائم سعيا نحو الكمال، بالمعنى الذى قصده هيجل (1770م ــ 1831م) فى تحليله للدولة. ولكن هذا المنطق غاب تماما عند تطبيق هذه الأفكار الشمولية فى الواقع. لقد كان حضور الدولة الشمولية فى التاريخ حضورا قاسيا وظالِما، وبخاصة فى الظهور الأول لها فى الدولة النازية والدولة الفاشية. ففى الدولة النازية (1933م ــ 1945م) والدولة الفاشية (1922م ــ 1943م) ارتبطت الدولة الشمولية بالتعصب العرقى، والتطرف فى فرض الرأى الواحد، وقهر الأصوات الناقدة والمُناقضة، وتعذيب بعض اليهود وحرقهم، وتحويل المجتمع إلى آلة حربية لغزو الشعوب المُجاورة وفرض الإرادة النازية عليها، ما أدى إلى إشعال حرب عالمية راح ضحيتها الملايين من مدنيين وجنود.
ولا شك فى أن هذا كله يعمل على تضييق الخناق على تدفق الروح المدنية. فالفرد الذى هو أساس تكوين المجتمع، والذى له حق مدنى فى الحرية والتعبير عن الرأى، لم يعُد حرا، والقانون الذى هو ركيزة من ركائز الحياة المدنية أصبح يطبَق لمصلحة رأى معين غالِب من دون بقية الآراء. بل إن القانون لم يعُد له من معنى فى هذا السياق، فهو قانون الغالِب والمُسيطر. ومن ناحية ثالثة يتحول مفهوم المُواطنة، والذى هو ركيزة أساسية للحياة المدنية، إلى مفهوم مشوه، حيث يُمكن أن تنزع السلطة الشمولية المُواطَنة عن الأشخاص؛ الأمر الذى يجعل الأفراد الأحرار غير قادرين على العيش فى المجتمع (قد نشير هنا إلى ظاهرة هروب المثقفين والمفكرين والعُلماء من الحُكم النازى وهجرتهم إلى الولايات المتحدة الأمريكية). ولا تعرف الدولة الشمولية فصلا بين السلطات؛ فالسلطات كلها بين الزعيم أو القائد، الذى تشع منه كاريزما القيادة، الحقيقية أو المزعومة، إلى باقى أرجاء المجتمع. وفى هذا السياق تصبح الحياة المدنية حياة مضغوطة مشوهة. حقيقة أن الأفراد يعيشون فى حياتهم اليومية ويتفاعلون من أجل العيش المُشترَك، ويتعاونون فى سبيل استمرار الحياة، ولكنهم ليسوا بحالٍ من الأحوال أفرادا أحرارا قادرين على أن يحددوا مصيرهم. فعقولهم، لا بل رءوسهم مشدودة دائما نحو الدولة، وكثيرا ما تنتابهم حالة خوف شديد من الأجهزة القمعية للدولة الشمولية، وهى أجهزة قوية عالية التدريب والإمكانات.
ويضيف الكاتب أن الدولة الشمولية تجسدت فى صورة أخرى مُختلفة عن الحُكم النازى والفاشى، نقصد هنا الدول الشمولية التى قامت فى المجتمعات ذات التوجه الاشتراكى فى الاتحاد السوفياتى السابق، وفى الصين وكوريا الشمالية وكوبا لفترات معينة فى دُول من العالَم الثالث. ولا يُمكن مساواة التجربة الشمولية هنا بالحُكم النازى والفاشى؛ فقد كان الحُكم فى الحالة الأخيرة حُكما جائرا ظالِما ضَغَط الحياة المدنية وشوَه الأُسس التى تقوم عليها. أما هنا فقد كانت الحياة المدنية أكثر تدفقا وحيوية، ولكنها لا تتحرر كلية من ضغط الشمولية وأيديولوجيتها المُسيطِرة. فقد قامت هذه النُظم على سيطرة الدولة على وسائل الإنتاج، وعلى أيديولوجية تنموية تجعل الدولة تسيطر على أيديولوجية أدوات الإنتاج، فى إطار نظامٍ للحكم يقوم على سيطرة الحزب الواحد الذى غالبا ما يكون ذا نزعة اشتراكية (وإن اختلفت أُسس الاشتراكية من بلد إلى آخر بطبيعة الحال). ولقد حاولت هذه النُظم تقديم نماذج تنموية فشلت فى بعض البلدان، ونجحت فى بلدان أخرى. ولقد سقط الكثير من هذه النظم على أثر تفكك دولة الاتحاد السوفيتى فى العام 1989، وتحوله إلى عدد من الدول. فقد تحولت الدول كلها التى كانت تسمى دول الكتلة الشرقية أو كتلة حلف وارسو عن النزعة الشمولية فى الحُكم. كما تراجَع الحُكم الشمولى فى بلدان كمصر وسوريا والعراق واليمن الجنوبى، وغيرها من الدول. ولكنْ ظلت للشمولية بعض الصور المستمرة حتى الآن، لعل أكثرها بروزا نظام الحُكم فى كوريا الشمالية وكوبا والصين.
***
ويختتم الكاتب حديثه قائلا بأنه على الرغم من أن لهذه النُظم مرامى تنموية وأنها تسعى إلى تحقيق شكلٍ من أشكال العدالة الاجتماعية، وهى لا تجرح المدنية، على غرار ما رأينا فى النزاعات النازية والفاشية ــ فإنها تكبح حرية الأفراد، ولا تسمح بتأسيس منظمات مدنية طوعية. ومن هنا فإنها تضغط الحياة المدنية بقوة وتمنعها من التدفق. وقد يقال إن النجاحات التى تحققها هذه الدول على مستوى النمو الاقتصادى، والازدهار الثقافى والفنى والرياضى، فضلا عن تطبيق معايير العدالة الاجتماعية وسد الحاجات الأساسية للسكان يعوِض السكان عن كمية الحرية المسلوبة منهم. ولكن مهما كانت المزايا التى يحققها الحُكم الشمولى على النمط الاشتراكى، يبقى الحُكم المدنى الخالص، الذى تحدده الإرادة الشعبية والذى يسمح بالتعددية والمُراجعة والنقد الذاتى، نموذجا يتوق إليه عقل الإنسان الباحث عن الوجود الإنسانى الحر.
النص الأصلى: http://cutt.us/VkZ36