يا رسول الله: لقد علمتنا وسطية الإسلام وعدله واعتداله ونعاهدك يا سيدى أن نحافظ عليها، فلا غلو ولا تقصير، ولا إفراط ولا تفريط، ولا زيادة ولا نقصان.
فلا تقديس للعقل على حساب النص، ولا تغييب للعقل تماما، حتى لو كان فى فهم النص.
ولا صدام بين الدين والعلم، فالعلم خادم للدين، والدين حاث على العلم.
ولا تضارب بين الدنيا والآخرة، فالدنيا هى مزرعة الآخرة.
ولا خلاف بين الأصالة والمعاصرة، فكل منهما يخدم الإسلام والأوطان ما دامت المعاصرة لا تتعارض مع ثوابت الإسلام.
ولا تناقض بين قوامة الرجل وحق المرأة وكرامتها، فقوامة الرجل هى تكليف ومسئولية وقيادة إدارية مجردة، أما حق المرأة وكرامتها، فقد حفظها الإسلام، ورعتها الشريعة الغراء، ولا تضاد بين الاثنين، فليس هناك مكان على الأرض، إلا وله قائد، ولا تعنى القيادة اضطهاد الرعية أو ظلمها أو البغى عليها، ولكن القيادة رعاية وريادة وبذل وعطاء، فالبخيل والجبان أو الذى يريد الأخذ من زوجته ولا يعطيها أو الذى يضربها ويقسو عليها علوا واستكبارا لا يصلح قائدا، ولكن البعض أرادوا الأسرة المسلمة بلا قائد ولا رائد لنعيش فى هذا التفكك الأسرى المدمر الذى نحياه اليوم.
فكل هذه التناقضات المزعومة يا سيدى يا رسول الله هى من تأليف وإخراج وإنتاج بعض الذين لم يعرفوا دينك أو الذين عرفوه ولم يفقهوه أو يتذوقوا حلاوته، وصدق الشيخ محمد الغزالى، رحمه الله، حينما قال: «إن كل تدين يجافى العلم الصحيح، ويخاصم الفكر المنضبط، ويرفض عقد صلح شريف مع الحياة، هو تدين فقد صلاحيته للبقاء»، فالبعض يريد دائما للعقل أن يكون مصادما للنص، وأن يظل العلم ضد الدين، ويصور للجميع أن الدين ضد الحضارة والتقدم والرقى فى الدنيا، وأن حقوق المرأة مصادمة لقوامة الرجل.
لقد كذبوا عليك وعلى الإسلام وعلى الناس يا سيدى يا رسول الله، فقد جئت بالحنيفية السمحة التى لا اعوجاج فيها ولا التواء، جئت لتقيم الوزن بالقسط، بحيث لا نطغى فى الميزان، ولا نخسره فى الوقت نفسه، فلا طغيان ولا خسران، ولا زيادة ولا نقصان، ولا إفراط ولا تفريط ولكنه عدل وقسطاس، تأملوا قوله تعالى: «أَلَّا تَطْغَوْا فِى الْمِيزَانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ».
فالطغيان فى الميزان هو الإفراط والغلو المذموم، وخسران الميزان هو التقصير والتفريط وهو مذموم أيضا، فالإفراط والتفريط كلاهما، يا سيدى، وجهان لعملة فاسدة واحدة لا خير فيها للمسلمين ولا نفع فيها للأمة.
لقد بعثك الله بالقسط فى الميزان وبين الناس وبين الدنيا والآخرة وبين العقل والنص، وبين، وبين، وبين؛ لتعلمنا يا سيدى أن نكون وسطا وعدلا.
فلا نكون من الخوارج الذين يكفرون المسلمين بالمعصية وينظرون إلى الناس من علٍ أو يطلقون أحكام الكفر على كل من يخالفهم الرأى والتوجه السياسى أو الفكرى من المسلمين، ولا المرجئة الذين يقولون لا يضر مع الإيمان ذنب، أو يقولون: «إن فرعون موسى مؤمن» أو لا يقبحون ارتكاب المعاصى وشيوع الكبائر.
وعلينا أن نكون وسطا وعدلا بين الشيعة الذين غالوا فى «على»، رضى الله عنه، فجعله فريق منهم أفضل من أبى بكر وعمر والصحابة أجمعين واختصروا الصحابة جميعا فى «على» وآله رضوان الله عليهم، ونصبه فريق منهم فى منزلة الأنبياء، وبين الخوارج الذين فرطوا فى حقه، ورموه بما ليس فيه ولم يعرفوا قدره ومكانته وبخسوه حقه وفضله وقتلوه ظلما وعدوانا وبغيا.
وأن نكون وسطا بين بعض العلمانيين الذين يقدسون العقل ويقدمونه على النقل الصحيح إن كان ثمة تعارض شكلى بينهما.. ويقولون إن العقل حكم على النص وعلى كل شىء، وهو المرجعية العليا للبشر أجمعين، وبين بعض الإسلاميين الذين لا يرون للعقل دورا على الإطلاق، ويريدون تغييبه حتى ولو كان ذلك الدور هو فهم النص وشرحه أو بيان ما غمض منه أو الوقوف على حكمه الخفية وأسراره ومقاصده.
فالإسلام لم يأتِ بتقديس العقول من دون الله، ولم يأتِ أيضا بإلغائها، ليعيش العباد فى ضلالات الجهل.
وعلينا أن نكون وسطا بين الذين يرفضون الحضارة الغربية بكـليتها، وبين الذين يأخذونها بخيرها وشـرها دون تمييز، فقد تفاعل الإسلام من قبـل مع كل الحضارات، واستلهم الرسول وصحـابته فكرة الخندق وهى فكرة فارسية ــ وهم أهل المجوس ــ وانتصر المسلمون بها، لأن الحضارة الإنسانية ملك للجميع رغم اختلاف الأديان والأفكار والبلاد.
يا سيدى يا رسول الله: أمتك اليوم تتحول عن وسطية الإسلام بعضها إلى الإفراط، والآخر إلى التفريط، فيا رب أغث هذه الأمة، حتى لا تقع فى الهلاك.