نكتب هذا المقال بمناسبة الاحتفال العالمى بيوم اللغة العربية فى هذا الشهر، وفيه نقول إن اللغة العربية تُعد إحدى عائلة اللغات السَّامِيّة، واشتُق اسم هذه العائلة من «سام» أحد أبناء نوح، كما أن العربية وعائلتها من اللغات الآفرو ــ آسيوية، وأقدمُ ما يُعرَف من لغتنا وُثِّق تاريخُه بالقرن الخامس الميلادى قبل ظهور الإسلام بقرن كامل، وفى القرنين الثامن والتاسع الميلادى (نهاية القرن الثانى وبداية الثالث الهجرى) ــ فترة تدوين اللغة ــ أَطلق عليها علماء النحو (سيبويه، والأصمعى…) مصطلح «لغة الضاد»؛ حيث إنها اللغة الوحيدة التى تحتوى على حرف «الضاد»، فمن المعروف أنّ هذا الحرف يعتبر من أصعب الحروف نطقًا، وأنّ العرب هم أفصح من نطقوا هذا الحرف!.
انتشرت اللغة العربية مع الفتوحات الإسلامية فى القرنين السابع والثامن الميلادى؛ أطاحت باللغة السبئية فى جنوب شبه الجزيرة العربية، والآرامية فى سوريا والعراق، والفارسية فى العراق، والقبطية فى مصر، واللهجات الأمازيغية فى شمال إفريقيا، ثم تم تعريب جزر مالطا القريبة من تونس، ومن عمان توغلت اللغة العربية فى زنجبار وشرق إفريقيا.
وكان يعرب بن قحطان أحد أحفاد النبى هود عليه السلام، وحفيد سام بن نوح أبو العرب الذى عاش فى القرن التاسع قبل الميلاد هو أول من تكلم بالعربية المُبينة (المزهر فى علوم اللغة - للإمام السيوطى ١: ٣٢)، وتكلم بها من بعده إسماعيل عليه السلام فى مكة، ونسى لسان أبيه (المزهر ١: ٣٢-٣٣).
وإذا تطرقنا للغة العربية تبيَّن لنا أنَها اللُغة الحيَة التى ما زالت تعابيرها والكمُ الأكبر من ألفاظها مستعملا حتى يومنا هذا، فعلى الرَّغم من أنَّ لغاتٍ أُخرى مثل اليونانية والعبرية واللاتينية قد بدأ تَدوينها قبل العربية إلا أنها لم تُحافظ على نفسها نابِضة، وكان هذا بفضل نزول القرآن الكريم بالعربية، ويُذكر أن نشأة العربية كانت فى الجزيرة العربية، وقبل التاريخ الميلادى بألف عام.
• • •
عن نشأة اللغات عامة واللغة العربية خاصة، انقسم علماء اللغة إلى فريقين حول هذه المسألة، يميل بعض العلماء العرب إلى اعتقاد دينى بأنَ اللغة خُلقت مع الإنسان، أى أنها «توقيفية» (Traditional / Revealed)؛ جاءت بالإلهام وبالوحى من الله، ويستند هؤلاء إلى قوله تعالى: «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِى بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ» (البقرة: 31)؛ والبعض الآخر يعتقد بأنها «اصطلاحية» أى أنها توافقية (Conventional)، ودليلهم قولُهُ تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ» (إبراهيم: 4)، أى أنها من خلق الإنسان بالعُرف أو بالاتفاق، بمعنى أن يصطلح اثنان أو أكثر على تسمية شىء بالاسم الذى يتوافقون عليه هم ومن يليهم، ومن ثم تتطوّر اللغة، ولكن ببطءٍ بمرور آلاف السنين خلال مراحل النمو المختلفة للبشر، ومن هنا جاء تعدد اللغات، مع العلم بأن الرأى المستقر عليه عند أكبر اللغويين فى العالم الحديث يُؤكد على أن أصل ظهور اللغة غامضا!.
وفى فلسفة اللغة الحديثة بالغرب، يختص مفهوم «الاصطلاحية» بطبيعة اللغة، ويعنى العلاقة الاتفاقية التعسفية الاعتباطية بين «الدال» Signifier و«المدلول» Signified، وهى ضد العلاقة الضرورية أو الطبيعية بين الدال والمدلول Naturalism، وقد لزم التنويه بذلك حتى لا يقع القارئ فى الخلط، ويظن أن قدماء النحاة كانوا يعنون بالاصطلاح ما يعنيه دى سوسير De Saussure بـ«اعتباطية العلامة» (Arbitrariness of sign).
ويرى أصحاب نظرية «الاصطلاح» أنَّ المقصود بالآية: «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا…» أن الله جعل الإنسان قادرًا على استخدام اللغة ــ دون الكائنات الأخرى ــ وأنه مَكَّنَه من الكلام والتسمية، ويضيفون بأنه لو كانت اللغات «توقيفية» فذلك معناه أحد ثلاثة احتمالات: 1- إما أن الله خلق علمًا ضروريًّا من الألفاظ ومسميات الأشياء ووضعه مُسبقًا فى عقل العاقل (الإنسان)، 2- أو فى غير العاقل، 3- أو أنه لم يخلق علمًا ضروريًّا أصلًا؛ والاحتمال الأول باطل، لأنه إذا كان العقل عالمًا بعلم الله بالضرورة فذلك معناه أن الله وضع فى عقل الإنسان الأشياء ومسمياتها مُسببة -كذا لكذا- ولو كان كذلك لبطُل التكليف، والاحتمال الثانى باطل أيضًا لأن غير العاقل لا يمكنه استيعاب هذه الألفاظ، والاحتمال الثالث بالمثل باطل لأن العلم بالأسماء ومسبباتها إذا لم يكن ضروريا احتاج إلى «توقيف» آخر لشرحه، وحينئذ لزم التسلسل. (بتصرف من المزهر ١: ١٨).
ونحن نضيف ما يؤكد نظرية «اصطلاح» اللغة بقوله تعالى: «وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» (النحل: 78)، وتعنى أن الله أخرج الناس مِن بطون أمهاتهم لا يدركون شيئًا، ولكن جعل لهم وسائل إدراك: السمع والبصر والقلوب، هكذا ذكر الله الأدوات التى يتعلم بها الإنسان؛ وترى الباحثة ابتهال العبسى أن هناك نظرية تسمى بـ«البو-وو» تقول «إن اللغة نشأت من الصرخات غير المبينة للحيوانات»، وأكد ذلك مايكل كورباليس فى كتابه «فى نشأة اللغة» بقوله «إن البشر منحدرون إلى فئة الطيور، مثبتا بذلك أن الطيور تسعى على ساقين كالبشر، والببغاء مثلا يفضل التقاط الأشياء بقدم واحدة، ولا نغفل عن الإيحاءات والأصوات التى تصدرها الطيور، أصبح يقلدها الإنسان عندما وُجِد على الأرض كالبكاء والصراخ لرغبة الأشياء إلى أن خرجت لغة تفرد بها البشر بعيدا عن الطيور»؛ ونحن نرى أن هذا ينسجم تماما مع كيف علم الله الإنسان دفن جثة أخيه من الغراب: «فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِى الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِى سَوْءَةَ أَخِيهِ…» (المائدة: 31)!
• • •
بالإضافة لما سبق، يبدو أن الأفكار المذهبية فى علم الكلام (علم إقامة الأدلة على صحة العقائد) كانت تُملَىَ على علماء اللغة فى شأن أصل اللغة، وبالتالى فإن تفكير علماء اللغة فى هذا الشأن لم يكن علميًّا خالصًا، أو فلسفيًّا محضًا، وعليه كان كل مذهبٌ كلامى يفرض على علماء اللغة أن يخضعوا له، ويضمن لهم اتساقه؛ وفى ذلك يقول د. إبراهيم أنيس (من أهم مؤسسى علم اللغة): «إن الخلاف بين علماء العرب ظهر واضحًا فى منتصف القرن الرابع الهجرى (العاشر الميلادى) وما بعده، فرأيناهم فريقين، الأول: أهل التقاليد من المحافظين الذين اعتمدوا على النصوص من أهل السنة وأضرابهم، وهؤلاء كانوا ينادون بأن اللغة «توقيفية»، وأن لا يد للإنسان فى نشأة ألفاظها أو كلماتها (...)، والفريق الثانى من علماء اللغة الذين نادوا بأن اللغة «اصطلاحية» -كان معظمهم من المعتزلة الذين استمدوا أدلتهم من المنطق العقلى- ففسروا ما ورد من نصوص بحيث تلائم اتجاههم وتنسجم مع منطقهم».
وعن اعتقاد خاطئ آخر يطرحه كثير من الناس بأن «العربية» هى أفضل اللغات، ولنفى هذا التفضيل اللاهوتى للعربية (ولكل لغة) فإننا نستشهد بابن حزم الأندلسى أحد العلماء الأجلاء القائل فى «الإحكام فى أصول الأحكام»: «وقد توهم قوم فى لغتهم أنها أفضل اللغات، وهذا لا معنى له؛ وقد قال تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ» (إبراهيم: ٤)، وقال كذلك: «فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» (الدخان: ٥٨)، فأخبرنا تعالى أنه لم يُنزل القرآن بلغة العرب إلا ليُفهم (النبى ﷺ) قومه لا لغير ذلك، وقد غلط فى ذلك جالينوس، فقال: «إن لغة اليونانيين أفضل اللغات»، لأن سائر اللغات إنما هى تشبه إما نباح الكلاب وإما نقيق الضفادع، ورد ابن حزم: وهذا جهلٌ شديد؛ لأن كل سامع لغةٍ ليست لغته، ولا يفهمها فهى عنده فى النصاب الذى ذكر جالينوس؛ وقال المسلمون: العربية أفضل اللغات لأن بها نزل كلام الله، فرد ابن حزم: وهذا لا معنى له؛ لأن الله أخبرنا أنه لم يرسل رسولًا إلا بلسان قومه، وقال تعالى: «وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ» (فاطر: ٢٤)، وقال تعالى «وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الْأَوَّلِى» (الشعراء: ١٩٦)، فبكل لغة نزل كلام الله ووحيه، وقد أنزل التوراة والإنجيل والزبور وكلم موسى عليه السلام بالعبرانية، وأنزل الصحف على إبراهيم عليه السلام بالسريانية، فتساوت اللغات فى هذا تساويًا واحدًا!
• • •
نستنتج مما سبق أن فكرتى «التوقيف» و«الاصطلاح» لم تكونا واضحتين فى أذهان أصحابهما فى الأزمنة السابقة كما يتصور القارئ المعاصر، ولا متمايزتين إحداهما عن الأخرى تمام التمايز، فـ«التوقيفيون» خلطوا بين قُدسية «القرآن الكريم» باعتباره كلام الله المُنزل الذى لا يمكن التغيير فيه، وبين اللغة بشكل عام، وأنهم أخذوا بظاهر النص فى الآية التى استندوا إليها «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا..»، فالتكلم بالأسماء وحدها متعذر لأن اللغة ليست أسماءً فقط، ولكن بها أفعال وحروف وتراكيب لغوية.. تتكون منها الجملة!.
وخلاصة القول أن اللغة العربية ينطبق عليها ــ مثل غيرها ــ قواعد التطوير والتغيير والاشتقاق والحذف والتفاعل مع العصر والبيئة اللذين تُعبر عنهما، فتوقيف اللغة أو تقديسها يعنى أنها «ثابتة»، وهذا يتناقض كلية مع طبيعة اللغة لأنها مثل الكائن الحى، فهى شأن «مُتغيِّر»، ومتطور مع الزمان والمكان، ومع حركة الحياة تكتسب مفردات وتراكيب وصور بيانية جديدة، وفى المقابل تفقد أيضًا كلمات وصور وتعبيرات لعدم استعمالها، ويمكن أن تشيخ ثم تموت مثل أى كائن حى، فلا يتحدث بها أحد كاللغات اليونانية واللاتينية والعبرية القديمة.. إلا أن اللغة العربية حفظها الله من عوامل الشيخوخة والفناء بفضل «القرآن الكريم»!.