المجتمع والدولة التى تقوم على شئونه هما دوما موضوع الصراعات، سواء أكانت صراعات على السلطة ضمن البلد أو صراعات بين البلدان، حتّى وإن أخذت شكل تفجير صراعات داخليّة بالوكالة عن دولٍ خارجيّة. المجتمع، والإنسان ضمنه، هو دوما المستهدف الأوّل والأخير، لقهره وشرذمته كى ينتهى الأمر بخضوعه لهيمنة المنتصر فى الصراع. وحيث أنّ الدولة هى الإطار المنظِّم للعلاقات بين الأفراد والمجموعات ضمن هذا المجتمع ولنهضته الاقتصادية والعمرانية ولأمنه، ما يُمكن تسميته «مصلحة عامّة»، وكذلك لحماية المجتمع من «صراعات الأمم»، بالقوّة الناعمة أو الغليظة، تستهدف الصراعات بنية الدولة ومؤسّساتها، ليس حقّا لتبيان أوجه عجزها، وإنّما فى النهاية لتقويض هذا المجتمع.
تعيش المجتمعات والدول كمؤسّسات أزمة كبيرة مع تطوّرات العولمة الاقتصادية والتقنيات الحديثة، حتّى فى البلدان التى ترسّخت فيها أنظمة ديموقراطيّة. فما بالك بحالة البلدان العربيّة، رغم الحلم الكبير الذى راود شبابها مع الربيع العربى؟
برزت محليّا أجسام سلطة داخليّة وعابرة للدول، مرتبطة بريوع أو بشركات كبرى متعدّدة الجنسيّات، ونخرت هياكل مؤسّسات الدولة وحوّلتها إلى أدوات لاستدامة نفوذها. بحيث لم تعد الدولة تؤدّى دورها فى صون المجتمع. بل إنّ الأزمات، ومنها الاقتصادية والمالية، مهما كان حجمها، لم تعُد فرصة لإحداث تغيير جوهرى، إلاّ فى حالات نادرة. إذ إن السلطات القائمة طوّرت وسائل هيمنتها كى تحتوى الأزمات التى أخذت هى إليها.
شُرذِمَ المجتمع إلى أفراد وإلى مجموعات هويّاتية بهدف إضعاف روح «المواطنة المتساوية» وحقوق الإنسان. وتمّ العمل على تبديد إمكانيات الجهد الجماعى، سواء من خلال القمع أو عبر هيمنة السلطة على وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعى، رغم أنّ انتشارها شَكَّل حينا أملا فى حريّات جماعيّة واسعة جديدة. بل أصبحت «الحرب» النفسيّة والإعلاميّة عبرها إحدى وسائل الصراع «الناعمة». وتمّ دفع «منظّمات المجتمع المدنى» بعيدا عن النشاط السياسى أو النقابى وبعيدا عن آليّات تغيير السلطة القائمة على الدولة.
• • •
إنّ أزمات المجتمعات والدول متفاقمة اليوم، سمتها الواضحة تفجُّر الصراعات. تلك العسكريّة أو لا، المحتدمة أو «المجمّدة» إلى حين، الداخليّة وبين الدول. المجتمع والدولة كمؤسّسة هى دوما موضوعها فى جميع الحالات.
مضى أكثر من سنتين على تفجّر أزمة لبنان الاقتصاديّة والمالية بحجمٍ غير مسبوق عالميّا. لكن رغم «الثورة» الاجتماعيّة التى قامت ومستوى الحريّات العامّة الكبير مقارنةً مع البلدان العربيّة الأخرى، استطاعت السلطة القائمة الاستمرار فى هيمنتها على حساب المجتمع والدولة سوية. وتُدار الأزمة بحيث دفع المجتمع وحده جزءا كبيرا من الخسائر الماليّة خلال سنتين. مع إفقار هذا المجتمع وتهجير الكثير من كفاءاته ومن طبقته الوسطى إلى الخارج، ما يهدّد مستقبلا إمكان استمراريّة «ديموقراطيّته» القائمة... على علاّتها. ولعب أركان السلطة على شحن الهويّات الطائفيّة ضد بعضها البعض، خاصة بحجة تبعية هذه وتلك لجهات خارجيّة متناقضة، وكذلك على تجذير الهوّة بين اللبنانيين والمقيمين، وأغلبيّـتهم لاجئون سوريّون. كما حُجِّمَت مؤسسّات الدولة عن أدوارها، من المجلس النيابى إلى القضاء وحتّى الأجهزة الأمنيّة، التى أضحى كلّ منها تابعا لطرف فى السلطة.
لكنّ لبنان ما زال يحتوى على قوى حيويّة فى المجتمع، خاصّةً نتيجة الحريّات العامّة المتواجدة فيه وإن شهدَت تراجعا، قوى يُمكن أن تجِد فرصةً لفرض التغيير وصون المجتمع وإعادة الدولة كى تؤدّى دورها لخدمته هو وكلّ المقيمين. فهذه مسئوليّتها.
• • •
أمّا الأزمة السوريّة فها هى تدخل فى سنتها الثانية عشرة وتُعانى من «الجمود». إلاّ أنّ هذا الجمود، أو بالأحرى «التجميد» من قبل القوى الخارجيّة المتصارعة بالوكالة يُهدد وحدة المجتمع والدولة على السواء. ثلاث مناطق نفوذ. كلٌّ منها يستند على تواجد عسكرى خارجى. وتقوم عليه سلطة توظّف مؤسسات الدولة لصالحها أو تعمل على إنشاء مؤسسات «دولتها» الخاصّة. تمّ تقسيم المجتمع إلى ثلاث عبر الحشد حول هويّات وذهنيّات تُناقِض، مهما كانت أسسها، مبدئى وحدة المجتمع ووحدة الدولة. وبدل العمل على ترسيخ تقبّل المجتمع لتنوّعاته ولتعدّد جذوره، جرى العمل فى كلّ منطقة نفوذ على قمع الحريّات العامّة ومسخ التعدديّة فى إبراز «مكونات» طائفيّة وعرقيّة، تتقاسم المجتمع والدولة. وكأنّ تجارب لبنان والعراق ليست ماثلة أمام أعين السوريين.
اقتصادات المناطق الثلاث أضحت متنافرة لا يوحّدها إلاّ... «التهريب» التى تقوم عليه القوى العسكريّة التى بالطبع ليست لها مصلحة فى توحيد البلاد. و«التهريب» والاقتصاد الإجرامى أضحى جزءا من سبل المعيشة فى ظلّ انتشار الفقر وسوء الإدارة وآثار العقوبات الاقتصاديّة.
الدولة السوريّة كمؤسّسة أيضا ضحيّة هذه التطوّرات. تمّ إضعافها وظيفيّا إلى دورٍ بالحدّ الأدنى. ما زالت تلك الشرعيّة متواجدة وإنّما فى إحدى مناطق النفوذ. وتتقطّع أواصر علاقاتها مع المناطق الأخرى حتّى للأمور الخدميّة كتأمين مياه الشرب والكهرباء والهاتف والصحّة. استخدِمت وسيلةً فى الصراع واستخدِم كذلك إقصاؤها وسيلة حرب على الضفّة الأخرى. هكذا كى تتشكّل كيانات أمر واقع مغلقة على نفسها، لا أفق لها إلاّ... كونفدراليّة هشّة. وهذا ما يتمّ التسويق له مجتمعيّا عبر طروحات اللامركزيّة أو الفدراليّة. وكأنّ هذين النظامين لتأطير العلاقة بين المستوى المحلى والمركزى لا يقومان على وحدة المجتمع والدولة.
دون نفى مسئوليّة السوريين نفسهم وخاصّة السلطة القائمة، لعِبَت القوى الخارجيّة التى تصارعت بالوكالة فى سوريا، جميعها، على تقويض المجتمع والدولة السوريّة. ساهمت جميعها فى تحويل انتفاضة مجتمع على السلطة القائمة إلى حربٍ أهليّة، مستهدفةً المجتمع ودولته على السواء. وأمام استحالة انتصار إحدى هذه القوى الخارجيّة على الأخرى تمّ العمل على تجميد الصراع العسكرى وعلى شرذمة الدولة والمجتمع، رغم الإعلان الصورى عن التمسّك بوحدة سوريا وسيادتها. واللافت أنّ أيّا من هذه القوى الخارجيّة، حتّى تلك التى تتبنّى الديموقراطيّة فى بلادها، لم يُدافع عن الحدّ الأدنى من الحريّات العامّة فى المناطق التى يدعمها ولم يرَ فى هذه الحريّات عنصرا أساسيّا من «الحلّ السياسى». بل العكس. وحتّى حريّة رأى السوريين فى دول الجوار، حيث لجأوا بكثافة، مقيّدة بشكلٍ كبير.
فما معنى القرار 2254 و«التفاوض» فى جنيف والعمل على دستور جديد... دون حريّات عامّة.
رغم كلّ ذلك، ما زالت هناك قوى حيويّة فى مناطق النفوذ الثلاث وفى بلدان الجوار، حريصة على وحدة المجتمع السورى ووحدة دولته... وعلى الحريّات العامّة. كبارٌ فى السنّ عرفوا فى نشأتهم سوريا بلدا ومجتمعا موحّدا ومتنوّعا يفخرون بذاكرته رغم ذكريات القمع والسجون. وشابات وشباب تشرّبوا هذه الذاكرة ويطمحون لتحقيقٍ حلمها يوما. ولا يهمّ أن تكون صعوبة اللجوء إلى «الغرب» أحد الأسباب، فالأمل الذى يحملونه وتصميمهم رغم كلّ الظروف القاسية ربّما ستُعطى أُكُلُها ذات يوم.