أنا أركب الآن بساط الريح وأعود به إلى الوراء لما يقل قليلا عن قرن ونصف قرن من الزمان وتحديدا إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، تلك المرحلة فتحت فيها مصر مسامها للنسيم العليل الآتي من بلاد الشام. أستنشق النسيمَ المشبّع برائحة الأَرْز والصنوبر وعطر المسك المنبعث من تراب الناصرة حيث كان مولد السيد المسيح. العقل الجمعي المصري يعتبر بلاد الشام كتلة واحدة لا يميز بين سوريا ولبنان وفلسطين، وفي هذا هو متسق مع الطبيعة لا يُلزِمه تقطيع الأوصال ولا يعترف بالنبت الشيطاني وسط أشجار التفاح مهما نما ورُفِع عليه علم سداسي النجمة. كل خيال هو وليد طبيعة ساحرة وليس أكثر سحرا من طبيعة يرقد فيها السهل في حراسة الجبل، ليس أكثر سحرا من طبيعة بلاد الشام. بهذا الخيال نزل الشوام إلى بر مصر على عهد الخديوي اسماعيل تراودهم أحلام كبيرة، ومساوئ الخديوي اسماعيل نحن نعرفها جميعا لكن كل البشر خليط بين جيد وردئ وليس اسماعيل استثناء من ذلك. هكذا ارتبط اسم الأخوين سليم وميشيل تقلا بصرح صحفي عملاق اتخذ من مسمى أهرام الفراعنة عنوانا له، واقترن مَولِد دار المعارف ثم دار الهلال ثم مجلة المصور باسم چورچي زيدان ورفاقه، وفي أروقة صاحبة الجلالة امتزجت الموهبتان الشامية والمصرية ومن داخلها لمع الجورنالجي المصري العربي الأشهر محمد حسنين هيكل، تماما كما مثّل صالون مي زيادة ملتقى لتبارز أبيات أمير الشعراء أحمد شوقي مع نثر عميد الأدب العربي طه حسين، كانت قاهرة المعز بحق تحفة للناظرين .
***
أعتلي بساط الريح مجددا في أربعينيات القرن العشرين، أصاحب فريد الأطرش في فيلم "آخر كدبة "و أحلّق معه فوق سوريا ولبنان والعراق والمغرب ومصر. عندما يمر بساط الريح ببلاد الشام سوف يغني فريد الأطرش من كلمات الشاعر الكبير بيرم التونسي: سوريا ولبنان قامات وقدود عليها باشوف عيون وخدود .. تزود نار القلب بارود أنا أعشق سوريا ولبنان. أنا أيضا أعشق سوريا ولبنان، كثيرون جدا يعشقون سوريا ولبنان. منذ دخل فن الأوبريت إلى السينما المصرية، أساسا على يد فريد الأطرش بأصوله السورية - اللبنانية المختلطة، كان من المعتاد أن يضم كل أوبريت رقصات وأغنيات من عدة دول، غالبا عربية، وغالبا بين هذه الدول كانت تظهر سوريا ولبنان. ففي أوبريت اللي يقدر على قلبي في فيلم "عنبر" كان إلياس مؤدب أحد العرسان الذين تقدموا لخطبة ليلى مراد، وغنّى هذا العريس نصف السوري/ نصف المصري باللهجة الشامية المحببة: جيتك من آخر لبنان مسلوب الفكر وطمعان .. احظي بعيون الغزلان واشرب من نهر الخلاّن، وغير ذلك كثير. وعلى مدار ما يقرب من ثلاثين عاما امتلأت الساحة الفنية المصرية بأسماء شامية لكبار الفنانين صعب جدا على أحد أن يحصيها: فايزة أحمد وصباح ووديع الصافي ونور الهدى وطروب وفهد بلاّن ..إلخ، وبأبيات من نسج نزار قباني تغنى كبار المطربين المصريين أمثال نجاة الصغيرة وَعَبَد الحليم حافظ بأروع قصائدهم، أخرجت آسيا ومثّل عمر الشريف ورقصت بديعة مصابني وألّف ميشيل طعمة وتوهجت قوة مصر الناعمة. من وقت لآخر كنّا نسمع عن تنافس بين فريد وَعَبد الحليم أو بين أسمهان وأم كلثوم أو بين بديعة مصابني وببا عز الدين، لكنه تنافس فني لم يكن فيه أثر للتعصب القُطري البغيض فمصر كانت تسع الجميع، نغمة التعصب ضد الفنانين غير المصريين نغمة جديدة وشاذة يجهل أصحابها أنه كلما تنوعت ألوان الزهور في البستان كان مرآه أبهى ألف مرة، ولذلك سنظل نحب رغدة وجمال سليمان وإياد نصار وأصالة وتمارا الرفاعي .
***
يتوقف بي بساط الريح في نهاية التسعينيات وهي الفترة التي بدأ فيها تقريبا ظهور أطباق المطبخ الشامي علي موائد المصريين، لست متأكدة أن كتاب أبلة نظيرة، الكتاب العمدة في الطهي الذي تورثناه جدة عن أم، لست متأكدة أن هذا الكتاب كان يعرف التبولة وفتة الباذنچان والمناقيش واللحم بعچين فنسختي من كتاب أبلة نظيرة صارت مهلهلة، لكن المصريين عشقوا هذه الأطباق وأكثرهم لم يتقن صنعها فالخُضرة مختلفة والتوابل مختلفة والنكهة أيضا مختلفة. انتشرت في مصر مطاعم يديرها شوام أو يشرف علي مطابخها شوام، مطاعم للشاورما وغير الشاورما، وعندما كان يسعدني الحظ بوجبة من هذا الطعام اللذيذ وكان يسألني عامل شامي عن "كِيف كان الأكِل؟" فأرد "طيب كتير"، كانت جملته اللطيفة "صحتين ع قلبك" تزغزغ كل عضلة من عضلات وجهي/قلبي. آدي الربيع عاد من تاني، هكذا وصفوا تحركات الشعوب العربية من تونس لمصر لليمن لسوريا لليبيا فقَصَدَ الشوام مصر التي عرفها أجدادهم وأحبوها، انتقلت بعض مصانع النسيج من حلب إلي مصر.. زمان كنّا نشتري إنتاج هذه المصانع من المفارش والملاءات والأغطية من سوق الحميدية في قلب دمشق وكان بالغ الجودة ورخيص الثمن، الآن دمشق قلبها جريح، يتعافى نعم لكن ببطء. مع وفود أهل الشام إلى مصرهم بعد ٢٠١١ تزايدت المطاعم السورية، وفتح قرب بيتي محل كنافة علي الفحم، بدأ صغيرا في رمضان الماضي، وفي رمضان هذا العام توسع المحل ونشأت بيني وبين أصحابه ألفة.. صحتين ع قلبك هي كلمة السر أو هي عربون المحبة .
***
هذا إذن ما صنعه الشوام في مصر والأدق هذا ما صنعه الشوام لمصر، صنعوا صحافة وفنا وأدبا وطعاما ونسيجا وعِشرة طيبة، استثمَروا الكثير في قلوبنا وعقولنا، فيا أيها البساط الذي يسابق الريح خذني إلى أزمان ومساحات تعتبر مصر امتدادا لشامها وابعدني جدا عن أولئك الذين يتغنون بالوطنية وسهامهم لقلبها مصوّبة.