• يذكر المهندس محيى الدين عيسى القيادى السابق بالإخوان فى مذكراته أن اللواء/فؤاد علام اتصل به تليفونيا يوما فى السبعينيات معاتبا له: لماذا تقيمون حلقات واجتماعات للأسر فى البيوت؟ فرد عليه: وماذا فى ذلك أننا نقرأ فيها القرآن ونتعلم فيها الأحاديث فقط.
• فقال له اللواء فؤاد علام: أعلم ذلك ولكن لماذا لا تجعلونها علنية فى المساجد يجلس فيها من شاء ويشارك ويراها من يشاء ثم أردف لمحيى الدين: هذه الأسر فى البيوت هى بداية التنظيم السرى وتكوين الجماعات، وهذه هى بداية المشكلة الحقيقية، أما فى المسجد حيث العلانية المطلقة فلا مشكلة، وذكر م/محيى الدين فى مذكراته أنه لم يدرك معناها إلا متأخرا ولم يدرك خطورة الفارق بين الإثنين إلا بعد سنوات طويلة من هذه الواقعة.
• تأملت هذه القصة طويلا وغيرها من عشرات القصص المماثلة التى عشت بعضها بنفسى أو كابدت تاريخها مع آخرين حتى قال أحد التلاميذ الصادقين لأستاذه قرأت التغير فى وجهك وحديثك حينما انتقلت من الدعوة العامة ببساطتها وسهولتها إلى الدعوة التنظيمية على قسمات وجهك ونبرات صوتك.
• لقد تأملت تاريخ بعض الحركات الِإسلامية التى تنتهج العمل السياسى أو المعارضة السياسية سواء سلمية أو عنيفة فوجدت أن معظم أطياف الحركة الإسلامية ورثت بقصد أو دون قصد أو لا شعوريا تميل إلى السرية حتى دون مبرر أو حتى لو كان فى زمن الحرية فقد أثرت فى نفسيتها لا شعوريا جيلا وراء جيل توالى الضربات والسجون والمعتقلات وما فيهما من انتهاكات وخروقات.
• السرية أعظم آفة عصفت بالحركة الإسلامية ونقلتها تدريجيا ولا شعوريا من الدعوة والحب للجميع إلى التقوقع حول التنظيم والتحوصل فيه والدوران حوله ثم الانتقال إلى مرحلة العنف والتكفير والعمل المسلح، ولعلى فى هذه الدراسة المختصرة أسوق بعض الآفات التى نبتت فى ظلام السرية وفى دهاليزها المعتمة حيث لم تبددها أنوار الوحى وشمس الشريعة وضياء المحبة، وإليكم بعضها مختصرة:
• أولا: الإسلام دين البساطة والوضوح والعلانية «وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» «تركتكم على المحجة البيضاء».. والسرية تناقض ذلك، وهى تعنى الخلل والريبة فى الحياة الاجتماعية والسياسية، فالإسلام اشترط حتى فى الزواج العلنية، وبين الزواج والسفاح، وجعلها تفرق بين الحلال والحرام» وكرهت أن يطلع عليه الناس.
• ثانيا: عدم العلانية تناقض أصلا من أصول الإسلام الهامة فى دعوته ومسيرته وهو علانية الدعوة ووضوحها وشفافيتها، والإسلام جاء بالجدال بالتى هى أحسن وتدافع الأفكار وهذا هو الذى يعطى قوة للإسلام.
• ثالثا: السرية هى الداء الأكبر الذى أصاب مسيرة الحركات الإسلامية لأنه البداية الحقيقية لتكوين الأجنحة السرية والعسكرية التى تنتهج العنف والتفجيرات والاغتيالات التى تتسبب فى إراقة الدماء ووقف عجلة التنمية وحشر الآلاف إلى السجون أو القبور.
• رابعا: كل التنظيمات السرية فشلت فشلا ذريعا وسلمت آلاف الشباب إلى السجون لمجرد تواصل حلقات المعرفة حتى دون المشاركة فى شىء وذلك بتهمة«الاشتراك الجنائى» أو«الانتماء للتنظيم» حتى لو حضر جلسة روحية أو فكرية واحدة معهم.
• خامسا: العمل بمبدأ السرية يجعل الإنسان يتعود العمل فى الظلام، ولا يستطيع بعد ذلك العيش فى النور، فيدمن العمل السرى، ويكتم أبسط وأتفه الأشياء عن الآخرين حتى لو كانوا أقرب الناس إليه.
• سادسا: مسلك الأنبياء جميعا العلانية والوضوح والصبر الجميل والحلم والعفو، وتحمل المصاعب والمتاعب التى تنجم من ذلك، فلا يبرر السرية الاستبداد ولا الظلم والقهر فقد تحمل الأنبياء ذلك فى صبر وأناة.
• سابعا: السرية هى سحب للقواعد الفقهية المستقرة من مجالها الشرعى إلى المجال الحركى وذلك أضر الفقه الإسلامى من جهة وأضر الحركات الإسلامية كذلك.
• ثامنا: السرية تجعل الشاب المتدين يخفى عن أبيه وأمه وأهله أبسط الأشياء رغم أنهم أحق الناس وأولاهم به، وتجعله يتعامل معهم بروح الكذب أو التقية، ويتعود الكذب، ويعمل بنفسية الهارب المطارد المتوجس خيفة حتى من أقرب الناس إليه، ويشعر أنه وضع نفسه دون مبرر فى مواضع الريب، كما أنها تبدد طاقات الإنسان الحقيقية.
• تاسعا: عالم اليوم من السموات المفتوحة والانترنت والفيس لا يقبل السرية، ويهدم أساسها ويحطم فكرتها، فلا حرج على أحد يريد نشر دعوته عبرها ما دامت دعوة سلمية صحيحة، فالسرية تجاوزها الزمن.
• عاشرا: معظم التنظيمات السرية يقبض عليها سريعا عكس ما يتصور الناس وبمراجعة تاريخها تجد أنها يقبض عليها قدرا مثل «السيارة الجيب فى الأربعينيات» «وتنظيم 65» الذى أنشأه سيد قطب وطلائع الفتح فى التسعينيات، وغيرها، وكما عبر أحد الضباط» نحن نتكعبل فى التنظيم دون أن نريده بعينه» فالسرية تحمل فى داخلها بذور فنائها.
• حادى عشر: السرية تولد داءً من أخطر الأدواء فى الدعوة الإسلامية وهى أن التنظيم أهم من الإسلام» لا شعوريا «وتجعل الشخص لا شعوريا يتدرج فى الدوران حول التنظيم قبل الإسلام والدين».
• ثانى عشر: السرية هى قرينة التقية وهى لا توجد فى مذهب السنة وتوجد عند الشيعة فحسب وإدخالها إلى مذهب السنة عن طريق السنة أضر بالسنة.
• ثالث عشر: السرية قرينة لتضخم الذات، وتضخم العيوب دون إصلاح أو تصويب، لأنها تفتقر إلى المناقشة العلنية، والمراجعة والتصويب، ولذلك تتضخم الأخطاء وتكبر سريعا، بعكس العلانية حيث يتم تصحيح الأخطاء أولا بأول ومناقشتها بين الناس.
• وختاما: فالسرية هى قرين معظم الأخطاء والآفات التى لحقت وتلحق بالحركات الإسلامية ذات التوجه السياسى وتحولها إلى كيان ضخم فيه عشرات الآلاف من الأفذاذ ولكن عقله معطل ومرونته غائبة ومراجعاته نادرة وقراراته الحاسمة متأخرة، وأضعف القيادات يمكن أن تقفز فى سياق السرية إلى سدة القيادة والريادة دون تأهل حقيقى.