نشرت جريدة البيان الإماراتية مقالا للكاتبة عائشة سلطان، تدعو فيه إلى مقاومة «هوس الشهرة والإنجازات المزيفة» التى تفرضها السوشيال ميديا، والعودة إلى «الحياة العادية البسيطة» والاحتفاء بـ «التفاصيل الصغيرة»؛ حيث إن القيمة الحقيقية للوجود تكمن فى اللحظات الهادئة والمطمئنة بعيدا عن الحاجة إلى التوثيق والحصول على الإعجابات والتداول فالجمال يكمن فى البساطة والإنجازات الصغيرة.. نعرض من المقال ما يلى:
فى عالم فرضت فيه السوشيال ميديا شروطها وبصمتها وأعرافها، حتى صارت قيمة الحدث وعمق اللحظة ودلالة المناسبة وحتى الأحداث الوجودية كالميلاد والموت، والمرض والحب والصداقة، وكأنها لا وجود لها، أو لم تحدث ما لم توثقها الكاميرا وتظهر على صفحات ومواقع السوشيال ميديا.
وفى هذا الواقع صار الوجود لا يقاس بالأهمية والعمق والأثر، ولكن بعدد الإعجابات، والتداول والانتشار، هكذا يعيش الكثيرون أيامهم، ويحسبون إنجازاتهم: كم إعجابا حققنا؟ وكم مرة تحولنا إلى «ترند»؟
وسط هذا العالم البعيد عن إنسانيته وعاديته، يصبح التوقف عند فنجان قهوة فى الصباح نوعًا من العودة للبساطة التى كنا نمارس بها أيامنا، وقد كنا نحبها، ونعلى بها ومن خلالها شئوننا الخاصة والصغيرة دون أى هوس بانتصارات يتردد صداها فى كل مكان عبر غرباء حول العالم، يعبرون لنا عن مشاعرهم بالأزرار والإشارات والرموز ولا شىء آخر نعرفه عنهم!
لكنك حين تعلى من شأن لحظاتك البسيطة والعادية، فإنك تعيد العالم إلى حجمه الحقيقى، وتضع نفسك فى مركز التجربة الإنسانية، لا فى واجهة العرض، فتمشى فى شوارع معتادة كأنك تطأها للمرة الأولى، وتلمس أحجار الجدران، وتتأمل العناكب فى الشقوق، ورائحة المطر على خشب الأبواب البالية، وحين تجلس فى مقهى صغير تفرح روحك، وأن تتأمل مفرش الطاولة التقليدى وخشب الطاولة العتيق وكأنك تكتشف سر الخلق فى هذا المكان الصغير.
الاحتفاء بالتفاصيل العادية ومحبتها هو نوع من مقاومة الفراغ السخيف الذى تخلقه البهرجة التى تملأ السوشيال ميديا، وهو عودة حقيقية للجوهر، فالعادى والبعيد عن الفرجة ليس تافهاً كما نتصور، إنه الوجه الصادق للوجود، والنسخة القديمة من شخصياتنا فى تلك الأيام التى لم نصبح فيها منصات وواجهات للفرجة، ألا تشتاقون لتلك النسخة الصادقة منكم قبل مرحلة الشهرة المقيتة؟ إن تمكنا من العودة للحياة بهذا السلام البعيد عن الإنجازات المزيفة، فإن هذا هو الإنجاز، وهو يعنى أننا فهمنا الدرس، والدرس هو أن الجمال لا يُصنع من إنجازات شاهقة، بل من لحظات مطمئنة وهادئة وبلا ضوضاء.