السيكولوجية الجمعية للإبادة.. سوريا نموذجًا - مواقع عربية - بوابة الشروق
الثلاثاء 22 أبريل 2025 8:58 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

السيكولوجية الجمعية للإبادة.. سوريا نموذجًا

نشر فى : الإثنين 21 أبريل 2025 - 6:25 م | آخر تحديث : الإثنين 21 أبريل 2025 - 6:25 م

ما شهدناه فى الساحل السورى فى مارس ٢٠٢٥، وما نشهده فى أماكن أخرى من سوريا، ليس قدرا محتوما، ولم يكن مجرد نتاج للحرب، بل نتيجة مباشرة لسنوات من التحريض والانقسام ونزع الإنسانية عن الآخر. الإبادة والعنف الممنهج ليسا نتيجة حتمية للاختلافات، بل هما نتاج عملية طويلة من التأسيس النفسى والاجتماعى تؤدى إلى قبول العنف كممارسة طبيعية، ففهم هذه الآليات النفسية هو الخطوة الأولى لمنع تكرار المأساة.
ما لا يدركه الكثيرون هو أن الإبادة ليست حدثا مفاجئا، بل عملية تتطور عبر مراحل، تبدأ من الكلمات والأفكار قبل أن تتحول إلى أفعال. وفى سوريا، شهدنا على مدى سنوات كيف تطورت هذه العملية، وكيف تحولت الانقسامات المجتمعية إلى أرضية خصبة للعنف الممنهج، ولمن هو ضحية أو «ضحية أكثر».
يقسم علماء النفس الاجتماعى الإبادة الجماعية إلى مراحل متداخلة. فوفقا للعالم السياسى جريجورى ستانتون، تمر الإبادة الجماعية بعشر مراحل، تبدأ بالتقسيم المجتمعى، ثم التصنيف، فالتمييز، فالتجريد، فالتنظيم، فالاستقطاب، فالتحضير، فالاضطهاد، وصولا إلى الإبادة، وأخيرا الإنكار. فى سوريا، يمكن تتبع هذه المراحل بوضوح من خلال الأحداث التى مرت بها البلاد منذ ٢٠١١.
• • •
قبل اندلاع الاحتجاجات فى سوريا، كان المجتمع السورى يعانى من انقسامات قائمة على أسس طائفية وعرقية وأيديولوجية وطبقية، ولكنها لم تكن للبعض واضحة على السطح. لكن هذه المرحلة تجذرت وتواترت بعنف وتسارعت منذ العام ٢٠١١، حيث صُنف الناس إلى «موالين» و«مندسين»، «معتدلين» و«متطرفين»، «عرب» و«كرد»، «سنة» و«علويين» و«شيعة»… إلخ. هذا التصنيف لم يكن مجرد تمييز وظيفى أو سياسى، بل تحول تدريجيا إلى تمييز هوياتى عميق.
فى بداية العام ٢٠١١، ساهم الإعلام الرسمى السورى والميليشيات الموالية للنظام فى نشر خطاب يصف المعارضين بأنهم «إرهابيون»، وفى السنوات التى تلتها تحدثت أيضا بعض قوات المعارضة والتنظيمات المتشددة عن «انفصاليين»، و«مرتدين«، هذا التوصيف سيجعل تصفية الموصوفين تبدو وكأنها تطهير مشروع.
فى هذه المراحل، يبدأ ظهور خطاب الكراهية والصور النمطية. سمعنا عبارات مثل «جراثيم»، و«كلاب» للإشارة إلى المعارضين، وفى المقابل، استُخدمت تعبيرات مثل «خنازير» و«كلاب الأسد» للإشارة إلى المؤيدين.
مع استمرار خطاب الكراهية، يبدأ المجتمع فى رؤية «الآخر» كشىء، وليس كإنسان له مشاعر وأحلام ومخاوف وعائلة، وهذا ما حدث فى سوريا، حيث أصبحت جثث القتلى مجرد أرقام فى نشرات الأخبار، وأصبحت صور التعذيب فى سجون النظام أو إعدامات «داعش» والتنظيمات المتطرفة وبعض الفصائل المعارضة، مواد للمشاهدة والتداول، من دون إدراك لفداحة ما نراه.
• • •
لا تنجح الإبادة من دون بنية تنظيمية تدعمها. فلم يكن العنف فى سوريا عشوائيا، بل كان منظما ومخططا له، من خلال تشكيل فرق موت، وميليشيات مسلحة، واستخدام التعذيب والإخفاء القسرى كأدوات لنشر الرعب.
كذلك استُخدمت المؤسسات الأمنية السورية كأدوات لتنفيذ جرائم ممنهجة، مثل حملات الاعتقال والتعذيب والقتل فى سجن صيدنايا، التى راح ضحيتها آلاف المعتقلين. كما لعبت وسائل التواصل الاجتماعى دورا جوهريا فى استقطاب المجتمع.
فى هذه المرحلة أيضا، تتشكل الجماعات المتطرفة، وتُنشر أيديولوجيات تبرر العنف. فى سوريا، رأينا تنظيمات مثل «داعش» و«جبهة النصرة»، كما رأينا ميليشيات موالية للأسد مثل لواء «فاطميون» ولواء «زينبيون». ويصبح الاستقطاب أكثر حدة وتضيق المساحات الوسطية. من لا يكون «معنا» يصبح «ضدنا».
فى هذه المرحلة أيضا، تبدأ عمليات التخطيط للعنف الجماعى، وقد تُنشر قوائم بأسماء من يجب استهدافهم. شهدت سوريا مثل هذه العمليات فى مناطق مختلفة.
ثم يأتى التنفيذ، وهو ما شهدناه فى مدن وبلدات مثل الحولة ودوما والقصير، ومؤخرا فى مجازر الساحل. فى كل هذه الحالات، لم تكن المجازر عفوية، بل كانت نتيجة عملية طويلة من التأسيس النفسى والاجتماعى.

• • •
فى سوريا، كما فى كل إبادة، نجد أن القتل الجماعى غالبا ما يُصاحبه نفى كامل للمجازر أو التشكيك فيها، أو التقليل من أهميتها. وبعد كل مجزرة، يبدأ مسلسل الإنكار: «لم يحدث شىء»، «جماعتهم من قتلتهم لتوريطنا»، «الأرقام مبالغ فيها»، «كانوا يستحقون ذلك».
فى مجازر الساحل الأخيرة، رأينا كيف انقسم السوريون: البعض أنكر حدوث المجازر أصلا، والبعض شكك فى مرتكبيها وبعدد الضحايا، وآخرون برروا حدوثها كنوع من «العدالة».
• • •
من أخطر نتائج هذه العملية النفسية هو انهيار الشعور الإنسانى والقدرة على التعاطف مع الآخر. التعاطف هو قدرتنا على تخيل أنفسنا مكان الضحايا والشعور بألمهم وبالتالى الاستجابة له. لكن فى سياقات الصراع الطويل، تتآكل هذه القدرة تدريجياً وأحياناً تتحول إلى الاستهزاء بتلك المعاناة والتشفى بها.
فى سوريا، أصبح البعض يرى معاناة الآخر «مستحقة»، أو كنتيجة طبيعية لمواقفه، التى فى كثير من الحالات لا يمكن معرفتها، إنما افتراضها تبعا لأى منطقة يعيش فيها، أو للعرق، أو الطائفة أو الدين. عندما تُقصف مدينة يسكنها «معارضون للأسد» قد يرى البعض ذلك كـ«تطهير من الإرهاب»، وعندما يُقتل مدنيون «موالون للأسد» أو مقيمون فى مناطق يفترضها البعض «حاضنة للنظام»، يرى البعض الآخر ذلك كـ«عقاب عادل»، وأحيانا مدعاة للاحتفال والتهليل.
غياب التعاطف، هذا، قد لا يكون حتماً نتيجة لانعدام الإنسانية، إنما من المحتمل أن يكون آلية نفسية للتكيف مع الصدمة المستمرة. فعندما يواجه الإنسان فظائع يومية، قد يلجأ عقله إلى التبلد العاطفى كوسيلة للحماية الذاتية، لكن الأمر ليس كذلك فى كثير من الحالات أيضا.

• • •
لعبت وسائل التواصل الاجتماعى دورا محوريا فى انتشار خطاب الكراهية فى سوريا وتوسيع قاعدة المشاركة فيه. «فيسبوك» و«تيليجرام» أصبحتا ساحات لتداول الصور والفيديوهات التى تُظهر العنف، مما ساهم فى تطبيع هذا العنف وجعله جزءا من الحياة اليومية. وبات الكثير من الشعب السورى يكرسون الوقت والموارد لمهاجمة منشورات المتعاطفين مع الضحايا على "فيسبوك"، والتشكيك فيها والاستهزاء والتنمر، وأحياناً تهديد ناشريها والمعلقين المتعاطفين والمؤيدين لأفكارها.
• • •
ما يجب دراسته ومناقشته هو مستوى الصدمة الجماعية المستمرة التى تعرض لها المجتمع السوري، والتى تجاوزت العقد من الزمن، وأن جيلا كاملا نشأ فى بيئة عنيفة وفى كثير من الأحيان متطرفة أيديولوجيا وسياسيا وعاطفيا. فعندما يعيش مجتمع بكامله تحت وطأة العنف والخوف والفقد لسنوات طويلة، تتطور لديه آليات تكيف قد تبدو غريبة للناظر من الخارج.

التبلد العاطفى تجاه معاناة الآخرين، أو حتى تجاه معاناة الذات، هو إحدى هذه الآليات. كذلك التفكير الثنائى (أبيض/أسود، ومعنا/ضدنا) الذى يبسط واقعا معقدا ويجعله أكثر قابلية للفهم وللحكم. وكذلك، الإنكار والتبرير، هما أيضاً آليتان نفسيتان للتعامل مع واقع صادم. فعندما يكون الاعتراف بالحقيقة مؤلماً جداً، قد يلجأ العقل إلى رفضها أو تبريرها.
• • •
إذا، ما الذى يجعل الناس يشاركون فى الإبادة أو سلبيين تجاهها؟
التفسير النفسى لهذا السلوك معقد، لكنه يرتكز على ثلاثة عوامل جوهرية على الأقل. أولها التطبيع مع العنف، فعندما يصبح العنف جزءاً من الحياة اليومية يفقد الأفراد حساسيتهم تجاهه. شهد الناس فى سوريا العنف لفترة طويلة لدرجة أنه أصبح مألوفاً. ثم يأتى الضغط الاجتماعى والطاعة العمياء، كما أظهرت تجارب ستانلى ميلجرام حول الطاعة. الأفراد قد يرتكبون أفعالاً غير أخلاقية لمجرد أنهم يتبعون أوامر السلطة، أى سلطة كانت سواء عسكرية، أو سياسية، أو دينية، أو قبلية، أو حتى إدارية. ثم يأتى العامل الثالث، وهو الانتقام والتبرير الأخلاقي. فى النزاعات الطائفية، يتم تصوير العنف كوسيلة لحماية النفس أو للانتقام، مما يسهل تبريره.
• • •
رغم قتامة الصورة، فإن التاريخ يُخبرنا أن المجتمعات قادرة على التعافى من أعمق الجراحات. لكن هذا التعافى لا يأتى من تجاهل الماضى، بل من مواجهته بشجاعة. لذلك، فالخطوة الأولى هى الاعتراف بوجود هذه الأنماط النفسية ومعالجتها. فى ألمانيا، بعد الحرب العالمية الثانية، تم فرض برامج تعليمية لمكافحة الفكر النازى، وتمت محاكمات دولية ضد مرتكبى الجرائم.
بالعودة إلى سوريا، لا بد من عملية عدالة انتقالية تقوم بالمحاكمات العلنية وتنفذ حوارات مجتمعية واسعة النطاق، وبناء قوات عسكرية وأمنية وطنية ومحترفة وتحترم حقوق الإنسان، وإصلاح القضاء والتعليم، وإنشاء قوانين وآليات مساءلة عادلة وغير متحيزة فى التعامل مع خطاب العنف والكراهية والتحريض.
نحن أمام خيار: إما الاستمرار فى دوامة الانتقام والانقسام والكراهية، وإما اختيار طريق صعب لكنه كفيل بإنقاذ ما تبقى من نسيجنا المجتمعى ومن بلدنا. فهم الآليات النفسية التى تقود إلى العنف الجماعى ليس ترفا فكريا، بل هو خطوة أساسية نحو تفكيكها ومقاومتها، وبدلا من أن نكون ضحايا سلبيين لهذه العمليات، يمكننا أن نختار أن نكون فاعلين فى كسرها.

مصطفى حايد


موقع درج
النص الأصلى
https://tinyurl.com/ytm4r56r

التعليقات