الحصار اللغوي.. استراتيجية الإعلام الأمريكي في محو الهوية الفلسطينية - مواقع عربية - بوابة الشروق
السبت 27 سبتمبر 2025 5:38 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

برأيك.. من البديل الأنسب لـ ريبيرو في النادي الأهلي؟

الحصار اللغوي.. استراتيجية الإعلام الأمريكي في محو الهوية الفلسطينية

نشر فى : الجمعة 26 سبتمبر 2025 - 7:25 م | آخر تحديث : الجمعة 26 سبتمبر 2025 - 9:30 م

نشر موقع درج مقالا للكاتبة ميان مساعد، توضح فيه أن التغطية الإعلامية الغربية والأمريكية، تحديدًا لحرب الإبادة على غزة، تنتهج «حصارًا لغويًا» ممنهجًا بهدف «محو فلسطين عن الفلسطينيين» وتجريدهم من هويتهم وإنسانيتهم.. نعرض من المقال ما يلى:
«فى الصحف الأجنبية، الأمريكية تحديدا، يتمتّع الإسرائيليون بميزة تنافسية تدعمها الأفلام والصور. لا تعنى كلمة «فلسطين» شيئًا لذلك الجمهور. بالنسبة إليهم هناك الضفّة الغربية وغزّة فقط»، هكذا يصف، جوزيف الخورى، استشارى فى الطبّ النفسى والمدير التنفيذى لعيادات فالنس، الوضع الإعلامى الراهن فى تغطية حرب الإبادة على فلسطينيى غزّة، المستمرّة منذ أكثر من عامين.
هذا الحصار اللغوى له انعكاساته على كيفية تقديم هويّة الفلسطينيين وتأطيرهم.
يستند هذا الموضوع إلى البيانات التى جُمعت ونُظّمت ضمن مبادرة أنماط (Anmat) من خلال مشروع «تأطير غزّة»، الهادف إلى كشف السرديات الإعلامية فى تغطية الحرب على غزّة، خلال عامها الأوّل (أكتوبر 2023 –أكتوبر 2024) إذ تمّ تحليل بيانات التغطية لخمس وسائل إعلامية أمريكية رئيسية، هى: نيويورك تايمز، وأسوشيتد برس، وفوكس نيوز، وواشنطن بوست، وسى. إن. إن، بهدف تبيان مدى مساهمة هذه الوسائل فى «نزع فلسطين عن الفلسطينيين»، عبر استبدال التعريف عنهم بالكلمة ذاتها وحصرهم فى المكان، أى «غزّة»، أو بسبل أخرى تساهم فى تغييب كلمتى «فلسطين وفلسطينيين» عن التغطية.
فى 14 مارس 2024، نشر موقع ذا إنترسبت تسريبًا لمذكّرة داخلية كتبها محررا نيويورك تايمز سوزان ويسلنج وفيليب بان مع نوابهما. المذكّرة تضمّنت إرشادات للصحافيين تقضى بالامتناع عن استخدام مصطلحى «الإبادة الجماعية» و«التطهير العرقى»، وتجنّب عبارة «الأراضى المحتلّة»، وعدم استخدام كلمة «فلسطين» إلا فى حالات نادرة جدّا.
إذا كانت الكلمات تشكل الوعى، فإن استئصالها من السياق يؤدى إلى محو الحيزات الرمزية المرتبطة بها. تشرح الدكتورة ديما عيسى رئيسة قسم الإعلام فى جامعة بالمند، أن التشيىء عبر اللغة ليس أمرا جديدا؛ فاللغة لطالما استُخدمت لخلق مسافة بين القارئ والضحية، عبر تجنّب ربط الكلمات بمجموعة معيّنة.
حظيت الدعاية السياسية بأهمية متزايدة بعد القرنين السابع عشر والثامن عشر، مع ازدهار نظام العبودية فى المستعمرات الأمريكية، وما صاحبه من أدبيات عنصرية استُخدمت لنزع الإنسانية عن الأفارقة، غير أن الاهتمام الأكبر بدراسة البروباجندا المسخّرة لنزع الإنسانية عن الشعوب ظهر بعد الهولوكوست، ذلك الكمّ الهائل من العنف الذى لم يتشكّل بين ليلة وضحاها. وحتى قبل ظهور الرايخ الثالث، كانت العنصرية تجاه اليهود رائجة فى الولايات المتّحدة وروسيا القيصرية، وأسهم هذا التنميط فى تهيئة الأرضية للإبادة الجماعية التى ارتُكبت لاحقا بحقّهم.
أما اليوم، فنرى ذروة المقاربة ذاتها فى الدعاية السياسية المطبّعة لوجود إسرائيل والمعادية للفلسطينيين، الذين تُمحى إنسانيتهم، ويوصفون بـ«الحيوانات»، يُمحى الفلسطينى اليوم عبر اللغة، من خلال اختزال وجوده إلى مجرّد مساحة جغرافية «غزّة».
• • •
بينما بدا تغييب بعض الكلمات فى نيويورك تايمز انحيازا للرواية الإسرائيلية، إلا أن فوكس نيوز رأت فى التغطية الصحافية لنيويورك تايمز انحيازا واضحا تجاه الفلسطينيين. فهاجمت فوكس نيوز نيويورك تايمز بعد نشرها صورة طفل هزيل فى غزّة كدليل على المجاعة. واصفةً الصورة بأنها مضلّلة، لأن الطفل كان يعانى من مرض سابق، واتّهمت الوسيلة بسوء الممارسة الصحافية، منددةً بأن الاعتذار عن الصورة ليس بكافٍ، إنما على نيويورك تايمز إرفاق التصحيح فى العناوين الرئيسية.
لكن عند تحليل تغطية فوكس، لم يتبيّن غياب الانحياز الذى اتّهمت زملاءها به. على العكس، تظهر قاعدة البيانات الانحياز الواضح للسردية الإسرائيلية فى تغطية فوكس نيوز: كلمة «فلسطين» لم تظهر إلا ثلاث مرّات (مرتبطة باعتصامات طلابية) بينما هيمنت «إسرائيل» على المشهد أكثر بآلاف المرّات.
انتهجت شبكة فوكس أسلوبا يركز على جذب تفاعل الجمهور بدلا من التغطية المعمّقة للقضايا، وهو نهج لا يقتصر على تغطية الإبادة الجماعية للفلسطينيين. ففى بحث صادر عن دار نشر جامعة تكساس، وُصفت الشبكة بأنها مدفوعة برأس المال والشعبية، وأنها تلجأ إلى معلومات انتقائية وغالبا محدودة، تؤثّر على آراء المشاهدين وتدفعهم إلى تكوين تصوّرات ناقصة مبنية على معطيات مضلِّلة.
تحدّث نعوم تشومسكى عن عملية «صناعة الرضا» أو «صناعة القبول الجماهيرى»، التى تشير إلى الكيفية التى تشكل بها وسائل الإعلام الرأى العام وتوجهه بما يخدم مصالح النخب السياسية والاقتصادية، وهو ما يمكن إسقاطه على تجربة فوكس. فتقوم الشبكة على مبدأ «الواقع المُصنَّع من فوكس»، وهو واقع يُمنتج ويُحرر بطريقة تستغل عواطف المشاهد، ليبقى مشتتا ومؤجّجا تبعا لأسلوب التكرار وتعزيز الأفكار النمطية المتلقاة، بما يمنع التفكير النقدى والتمعّن فى فهم المواقف والأحداث.
• • •
لم تكن فوكس وحدها فى تبنّى السردية الإسرائيلية؛ إذ نشرت الجارديان تقريرا عن موظفين فى الـ «سى. إن. إن» اشتكوا من «تحيز مؤسسى لصالح إسرائيل»، شمل ذلك منع اقتباس تصريحات فلسطينية أو حصرها، وبالمقابل تم التعامل مع بيانات الحكومة الإسرائيلية كحقيقة مطلقة.
أظهرت البيانات أن كلمة «إسرائيلى» تكرّرت ثلاثين مرة أكثر من «فلسطينى»، و«غزة» خمس مرات أكثر، و«حماس» ثلاث مرات أكثر. كما استُخدم مصطلح «الغزّيون» بدل «الفلسطينيون»، فيما غابت كلمة «فلسطين» تماما.
شكّلت تغطية الـ«سى. إن. إن» فى السابق الوعى الجماهيرى بالقضايا، ومنها برزت نظرية تأثير الـ«سى. إن. إن» التى تشير إلى دور التغطية الإخبارية الآنية، كما ابتكرتها الشبكة، فى توجيه مسار صنع القرارات السياسية والحكومية. تقوم الفكرة فى جوهرها على أن التقارير الإخبارية المصورة لا تكتفى بتشكيل الرأى العام، بل تتحول أيضا إلى ورقة ضغط تحفز الحكومات وصانعى القرار على إيجاد الحلول السلمية والتدخل السريع فى النزاعات.
• • •
فى التغطية الأجنبية، تحرص الصحف على ذكر الجناة وتوصيفهم، فتُعيد التذكير فى كل خبر وكل مقال «بالهجوم الإرهابى الذى شنته حركة حماس فى 7 أكتوبر، والذى أسفر عن مقتل 763 إسرائيليا بينهم 38 طفلا». فى المقابل، تعرضت صحيفة واشنطن بوست، التابعة لرجل الأعمال ومؤسس «أمازون» جيف بيزوس، لانتقادات بسبب استخدامها المتكرر لصيغة المجهول فى تغطية الحرب على غزة والفلسطينيين. ففى إحدى المقالات، نشرت الصحيفة أسماء الضحايا تحت عنوان: قُتل 60 ألفا من سكّان غزّة، بينهم 18,500 طفل.
تبرهن لنا قاعدة البيانات أن صحيفة واشنطن بوست، تماما مثل نيويورك تايمز، تتملص من تسمية الفلسطينيين باسمهم. على عكس الصحف التى سبقتها، «فلسطين» تظهر فى عناوين واشنطن بوست، ولكن رغم ظهورها 151 مرة، تحتوى على قاعدة البيانات على 315,630 تركيبة محتملة للكلمات الأكثر ظهورا فى العناوين.
الارتباطات الأكثر شيوعا لكلمة «غزّة» هى: «غارة جوّية»، «إدارة»، «انفجار»، «تسبّب».. أى إن التركيز يقع على أحداث الصراع المباشر مثل الغارات والانفجارات، مع بعض الجوانب الإدارية والتحقيقية. كذلك الأمر مع كلمة «إسرائيل» التى تترافق مع السياق السياسى الدولى والإقليمى. بينما تظهر «فلسطين» فى تغطية الاعتصامات الطلابية ضمن التركيبات التالية: «اعتصام»، «فلسطين حرّة».
• • •
فى الرابع والعشرين من يوليو، أصدرت وكالة AP News، بالشراكة مع بى. بى. سى. ورويترز، بيانا صحافيا أعربت فيه عن قلقها من تجويع الصحافيين فى غزّة، فى خطوة اعتُبرت الأولى من نوعها. لكن بعد بضعة أشهر فقط، خيّبت الوكالة آمال قرّائها بالعنوان التالى: «المراسلة الحرة لأسوشيتد برس مريم الدقّة قُتلت فى غارة إسرائيلية فى غزّة».
فى عنوان أسوشيتد برس، التركيز على صفة مريم بأنها مراسلة حرّة يعيد ترسيم المسافة بين الوكالة والصحافية. ففى حين أن العلاقة بين الصحافى وربّ العمل تحمل واجبات ومسئوليات متبادلة، فإن اختزالها بصفة «المراسلة الحرة» يفتح الباب أمام التنصل من تلك المسئوليات.
يشير جوزيف الخورى إلى أن فعل ترسيم المسافات لا يقتصر على اللغة فحسب، بل ينعكس أيضا فى التكتيكات العسكرية الإسرائيلية، ويشرح قائلًا: «الخطوة الأولى عسكريا هى نزع الإنسانية. هذا يظهر فى الطريقة التى تُخاض بها الحروب اليوم، حيث أصبح كل شىء ميكانيكيا. الجنود الإسرائيليون لا يرون الأشخاص الذين يقتلونهم. ترى القنابل تسقط والمبانى تنهار. فى الغرب، لا تلقى هذه الصور الصدى ذاته الذى قد تُثيره لدى شخص فى لبنان. التعاطف عبر الذاكرة أمر يجب إشعاله وتفعيله».
مع ذلك، ووفقا لقاعدة البيانات، بدت أسوشيتد برس الأقرب إلى تسمية الفلسطينيين باسمهم. فمع أن كلمة «فلسطين» لم تظهر إطلاقا - تماما كما فى نيويورك تايمز وسى. سى . إن - إلا أن كلمة «فلسطينى» وردت ثمانى مرّات أكثر من «إسرائيلى»، وسبع مرات أكثر من «غزّة»، وعشرين مرّة أكثر من «حماس».


النص الأصلى

التعليقات