ماذا عن «فراغ القوة» و«نزع السلاح» فى بلاد الشام تاريخيا؟ - طارق فريد زيدان - بوابة الشروق
الإثنين 24 مارس 2025 5:32 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

ماذا عن «فراغ القوة» و«نزع السلاح» فى بلاد الشام تاريخيا؟

نشر فى : السبت 22 مارس 2025 - 6:45 م | آخر تحديث : السبت 22 مارس 2025 - 6:45 م

«فراغ القوة» و«نزع السلاح». جُملتان مفتاحيتان بسيطتان جدا على اللسان، وفى الوقت ذاته عميقتان جدا وتُعبّران عما يختزنه الميدان العربى الملتهب والمتصدع وما تواجهه المنطقة من تحديات ناجمة عن انهيار نظام وولادة نظام جديد فى سوريا، ووقف النار فى كل من لبنان وغزة.
هما جُملتان أو يصح القول فيهما «نظريتان»؛ تملك كل واحدة منهما سندها التاريخى والجغرافى العميق ما يجعلهما مرشحتين لأن تكونا الأوفر حظا والأكثر رواجا فى العقل البيروقراطى، شرقا وغربا. سياسات الدول ذات الوزن الاستراتيجى لا تنشأ من حسابات الرغبة. لها سياقها البيروقراطى. ألف باء الجيوسياسة. ربما تبدأ بجملة أو عنوان فى تقرير يُرفع إلى مركز القرار ومن ثم يتحول هذا العنوان إلى فكرة ومن بعدها إلى حقيقة أو قوة أو إمكانية أو فرصة.
• • •
فى عصر صدر الإسلام، فاضت الدعوة الإسلامية خارج حدود الجزيرة العربية. نحو العراق أولا ثم الشام. فيضانٌ أعلن دخول هذه الجزيرة ساحة التنافس الدولى آنذاك. استندت الدعوة الإسلامية إلى جيش تجسّد فى بناء معسكرين فى مدينتى الكوفة والبصرة لما لهما من موقع استراتيجى متصل بالمنطقة كلها. هاتان المدينتان رفدتا الدعوة الإسلامية بالسلاح للمتطوعين من أبناء قبائل الجزيرة العربية للانخراط فى المشروع الأممى الجديد.
استمرت مدينتا الكوفة والبصرة فى لعب هذا الدور بالرغم من الصراع الأهلى فى واقعتى الجمل ثم صفين. ولكن مع قيام الدولة الأموية استفادت السلطة فى دمشق بداية من دور المعسكرين. ومع تحول السلطة فى دمشق إلى دولة فى ضوء تفاهمات سياسية صيغت مع القوى العظمى آنذاك، أصبح دور المدينتين متناقضا مع النظام الإقليمى الجديد. عندها برز عنوان «نزع السلاح». نجحت دمشق فى نزع السلاح عن طريق إخضاع المدينتين لسلطتها المركزية. ويصف الكاتب العربى، ميشال نوفل، العملية هذه بالموجة الأولى لفرض الاستقرار فى التاريخ العربى، ذلك أن هذه العملية التى قامت على فكرة نزع السلاح إنما جاءت بناء على سياسة الضرورة لبناء الدولة المتماهية مع النظام الإقليمى الجديد.
الموجة الثانية، بحسب ميشال نوفل، جاءت على أعتاب التحول الكبير الذى جرى فى المنطقة مع سقوط الدولة الأموية وفراغ القوة الذى سكن بلاد الشام. أصبحت المدينتان المعسكران الملامستان للعاصمة العباسية فى بغداد فى موقع التنافس على السلطة الجديدة. ذهبت الدولة العباسية تبحث عن كيفية فرض الاستقرار تحت عنوان نزع السلاح. هى الموجة التى بدأت من داخل بغداد فى حركة احتجاجية لم تخلُ من مواجهات وتوترات امتدت لأكثر من أربعين سنة. بداية من حكم الخليفة المأمون الذى وجد فى نزع السلاح سياسة عامة للمحافظة على الإمبراطورية وصولا إلى الخليفة المتوكل الذى قبل بالتحولات الإقليمية متصالحا مع فكرة الاستقرار بالتراضى.
• • •
لم تصمد الدولة العباسية أمام الرياح الدولية ومتغيراتها بالرغم من طول عمرها واتساع مساحتها. كانت التحولات عميقة فى رسم مصير المنطقة التى انتقلت فى مسار تاريخها من دولة إلى أخرى. رافقت لعبة الأمم تلك عملية تدمير ممنهجة للجيوش العربية فى المشرق. ما أدى إلى انتقال مركز الثقل فى الحراك العسكرى العربى إلى منطقة شمال إفريقيا ثم إلى الأندلس. عندها دخلت بلاد الشام والرافدين فى فراغ قوة متنقل بين دولة وأخرى إلى حين قيام السلطان العثمانى سليم الأول بالدخول إلى المنطقة بعد معركة مرج دابق ١٥١٦م. معلنا تحول بلاد الشام من ملعب إلى لاعب فى لعبة الأمم وانتهاء رحلة فراغ القوة الذى سكن المنطقة فى تلك الفترة.
قاد اتساع مساحة الدولة العثمانية وتنوع العرقيات والثقافات فيها إلى فرض سياسات محددة. ولعل أهم تلك السياسات هى احتكار السلاح تحت إمرة الضابط العثمانى مع إبقاء الإدارة المحلية بيد الولاة. فكانت الولاية تخضع لوصاية العسكر العثمانى لأجل مهمتين لا ثالث لهما: جباية الضرائب ومنع التسلح.
باختصار كانت السمة الطاغية طيلة فترة العهد العثمانى تتسم بملء فراغ القوة فى بر الشام بالمحافظة على هيمنتها فى البحار الأربعة: البحر الأبيض المتوسط، والبحر الأحمر، والبحر الأسود، وبحر قزوين.
جرت محاولات لكسر القرار فى ولايات معارضة للهيمنة العثمانية. صُنفت من قبل الباب العالى أى محاولة لاقتناء السلاح بحجة الدفاع عن طائفة بأنها تعبير عن تدخلات خارجية من دول الاستعمار الأوروبية بشئون الدولة العثمانية. لعل أبرز تلك الحوادث هى حرب جبل لبنان والمجازر بحق المسيحيين فى دمشق العام ١٨٦٠م. وقد عرض البرفيسور، يوجين روجن، أستاذ تاريخ الشرق الأوسط فى جامعة أوكسفورد فى كتابه الجديد «أحداث دمشق: مذبحة ١٨٦٠م وتدمير العالم العثمانى القديم» تلك المرحلة بتفصيل جديد يستشف القارئ والقارئة منها أن هذه الأحداث لها جذر يتخطى سياسة الدولة العثمانية وصولا إلى فكرة نزع السلاح عموما فى منطقتنا عند ولادة نظام إقليمى جديد.
أدى سقوط الدولة العثمانية فى بداية القرن العشرين إلى بروز مصطلح «فراغ القوة» فى المشرق من جديد. معها تحوّل بر الشام (سوريا) إلى ملعب دولى للتنافس بين القوى المتعددة.. تدخلات خارجية من الشرق والغرب فاقمت التناقضات فى الإقليم. تمددت الحرب الباردة إلى منطقتنا مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وبدأ «فراغ القوة» يتقلص مع حرب قناة السويس عام ١٩٥٦م ثم مجىء حزب البعث إلى السلطة عام ١٩٦٣م.
لطالما كانت بلاد الشام نقطة توتر إقليمى، حيث تمر عبرها العديد من خطوط الصدع الجيوسياسية. فى ظاهرة عمّت منطقتنا منذ الغزو الأمريكى للعراق العام ٢٠٠٣م وما تلاه من انفلات إيرانى وتدخل تركى. ناهينا عن الاستغلال الإسرائيلى لانهيار المنظومة الإقليمية فى حروبها الدموية المتكررة.
ربع قرن انقضى من القرن الحادى والعشرين وسيكتب عنه لاحقا أن المنطقة حكمتها معادلة «فيلق القدس» و«العم سام» التى كانت تتأرجح بين التعاون والتشابك والاشتباك غير المباشر على ساحات التنافس الإقليمية. هو درسٌ عسكرى وسياسى لظواهر جديدة فى علوم الصراع الدولى.
• • •
لست أدرى إذا كان من سوء أو حسن حظنا أننا شهود على لحظة سياسية معينة ومرحلة انتقالية تتبلور فى خضمها قرارات وخرائط وسياسات مبنية على تقاطع مصالح وتحولات سياسية واقتصادية كبرى لا تعصف بالشرق الأوسط وحده بل بالعالم بأسره؛ تطورات لا بد وأن تفرز مفردات ونظريات سياسية تحاكى الواقع المستجد من جهة والمستقبل الغامض للإقليم والعالم من جهة ثانية.
نزع السلاح إن شئنا قضية جذورها تاريخية. يمكن تتبع سيرتها من مدينتى الكوفة والبصرة فى عصر صدر الإسلام. مرورا بجبل عامل فى جنوب لبنان الذى هو دور سياسى فى تاريخ المنطقة أكثر منه من مساحة عقارية فى الجغرافيا، وصولا إلى مدينة غزة التى لها من اسمها كل نصيب. لطالما كان القطاع معبرا للغزاة بين قارتى آسيا وإفريقيا عند سواحل البحر الأبيض المتوسط. أما «فراغ القوة» فهو مصطلح غربى يمكن تتبع سيرته منذ الاغتيال الشهير لقيصر روما يوليوس قيصر قبل الميلاد وانهيار الدولة الرومانية الذى أدخل قارة أوروبا فى العصور المظلمة، وصولا إلى لحظة سقوط نابليون حاكم فرنسا والعالم وخروج النفوذ الفرنسى - البريطانى من الشرق الأوسط بعد حرب قناة السويس عام ١٩٥٦م. وطبعا لا يمكن القفز من فوق الغزو الأمريكى للعراق العام ٢٠٠٣.
فى الختام، يصح القول إن العام ٢٠٢٤ هو عام التحول الكبير فى الشرق الأوسط. ويصح القول أيضا إن مستقبل المنطقة أصبح أكثر اعتمادا على تطوير «العم سام» استراتيجية شرق أوسطية بدلا من العلاقة المتأرجحة بين إيران وأمريكا فى العقود الأربعة الماضية.
وفى السياق نفسه، يصح الاستنتاج أن تطور الاستراتيجية الأمريكية سيكون بالدرجة الأولى وليد تدحرج الأحداث فى سوريا ولبنان وغزة. من خلال هذا التسلسل لا بد من تذكر الجملتين أعلاه: «فراغ القوة» و«نزع السلاح».. من هذه الزاوية نستطيع فحص مآلات التحول الكبير لمنطقتنا التى تعيش على الأزمات وإدارتها بدلا من حلها.

 

طارق فريد زيدان كاتب سعودي
التعليقات