نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب غسان مراد... جاء فيه ما يلى.
يدفعنا التطرق إلى موضوع اللغة العربية والذكاء الاصطناعى للرجوع إلى الجذور، ولكن ليس فى ما يخص اللغة، فجذورها معروفة وواضحة، بل إلى جذور التداخل بين التقنيات المعلوماتية واللغات الطبيعية، بما فيها اللغة العربية.
هذا التداخل بين المعلوماتية كعلم والعلوم اللغوية أدى إلى ظهور ما نسميه حاليا «حوسبة اللغة» أو «اللسانيات الحاسوبية»، وهى من أول العلوم الجديدة المنبثقة عن هذا التداخل البينى الذى كان أساس بروز مفهوم الذكاء الاصطناعى، وهو مفهوم بدأ مع العمل على بناء برمجيات للترجمة الآلية من اللغة الروسية إلى الإنجليزية.
إن حوسبة اللغة هى مجموعة من التطبيقات التى تستخدم خوارزميات الذكاء الاصطناعى فى حل المسائل اللغوية، فالتطبيقات التى ترتكز على خوارزميات الذكاء الاصطناعى (التعلم الآلى والتعلم المعمق) تهدف إلى جعل ما هو مضمر فى النص واضحا للآلة، أى لا لبس فيه، وذلك من خلال بناء برمجيات «تتعلم» من التجارب السابقة، بحسب المدونات التى ترتكز عليها خلال مرحلة التعلم الآلى؛ فاللبس اللغوى والغموض وعدم التحديد المعنوى هى ظواهر أساسية فى اللغة، ولولاها لما كان باستطاعتنا القيام بعملية التواصل المتشعبة والمتباينة والمتناقضة، ولوقعنا فى معضلة محدودية التعبير.
المفارقة تكمن فى أن برمجيات الحاسوب التى ترتكز على خوارزميات الذكاء الاصطناعى أو غيرها من الخوارزميات، لا يمكن أن تتعامل مع ما هو ملتبس؛ ذلك أن طبيعة البرمجيات الحاسوبية قائمة على عمليات حسابية تتعامل مع معطيات قابلة للحساب، من هنا يطرح السؤال: هل اللغة قابلة للحساب؟ بمعنى آخر، هل الفكر هو عملية حسابية، لكونه يتمثل بالرموز اللغوية!
***
طبعا، إن ما ينطبق على اللغات الطبيعية ينطبق على اللغة العربية، ولكن بحسب البنية الصرفية والنحوية والدلالية لكل منها، وإذا كانت العملية اللغوية عملية ذهنية تسمى «ذكاء»، فإن مكننة هذه العملية تسمى ذكاء اصطناعيا، أى محاكاة الذكاء البشرى، هذا من الناحية التعبيرية اللغوية، فالدماغ البشرى مسئول عن كل الأمور المتعلقة بالعملية الفكرية، كما أنه مسئول عن كل الحركات التى يقوم بها الإنسان، كتحريك اليدين والأكل والشرب والهضم، وإذا كانت بعض العمليات متكررة، كالمشى والصعود والنزول وفك بعض قطع السيارات وتركيبها.. ومن الممكن أن تصبح ممكننة، فماذا عن اللغة؟ هذا هو السؤال الفعلى الذى من المفترض بالذكاء الاصطناعى الإجابة عنه، والذى نطمح إلى أن نصل إلى حل فعلى له مستقبلا!
إن اللغة المتمثلة بالخطاب والنص، ليست عملية متكررة، واستخدام الكلمات نفسها لا يجرى بالطريقة نفسها خلال التعبير الشفهى والكتابى، أى أننا لا نستخدمها بالمعنى نفسه فى لحظات وسياقات مختلفة، ما يدفعنا إلى البحث عن أدوات ترفع اللبس اللغوى، فهل هذا ممكن؟ هل الآلة تفكر؟ لا، الآلة لا تفكر كما يفكر العقل البشرى، بل تنفذ مجموعة من العمليات الحسابية التى تتناسب مع التركيبة الفيزيائية للحواسيب المبنية على تبادل شحنات كهربائية بين الخلايا الصناعية داخل الحواسيب.
ولعل أبرز تحديات التعرف الآلى إلى الكلمات هى ظاهرة الإدماج، على سبيل المثال، فى كلمة «فهم»، هل «الفاء» هى جزء من الكلمة أو أنها «فاء» العطف؟ هذا أولا، ثانيا، إن التشكيل يعد أيضا جزءا من الصعوبات فى التعرف إلى الكلمة، فكلمة «فهْم» من دون تشكيل قد تقرأ بأشكال مختلفة: فهمٌ، فهَّمَ، فَهِم! وإذا تعرفنا إلى الكلمات، هل سنتعرف إلى معانيها! ففى السياقات المختلفة تأخذ الكلمات معان مختلفة، فكلمة «شوكى» فى «أرضى شوكى» ليست نفسها فى «النخاع الشوكى»!
طبعا، إن صعوبة التعرف إلى الكلمات تؤدى إلى صعوبة التعرف إلى التركيب النحوى، ومن ثم صعوبة بناء المعنى الدلالى للجملة، هذا إذا ما كنا نتحدث عن التعرف إلى مضمون النص من كلمات وجمل، ولكن تبقى أمور عديدة، منها السياق الخارجى للنص والزمان والمكان النصى وغيرها من الظواهر التى تؤدى دورا فى بناء المعنى.
الفروقات ما زالت عميقة
فى السنوات الأخيرة، وبعد أن باتت النصوص الرقمية متاحة بشكل كبير، وصار من السهل بناء مدونات نصية يمكن العمل عليها، وباتت الحواسيب سريعة فى التنقيب وتنفيذ البرمجيات، اتجه بعض العاملين فى مجال حوسبة اللغة إلى استخدام طرق جديدة ترتكز على السياق النصى فى البحث اللسانى، ترتكز هذه الآلية على المدونات النصية التى تستخدم كبيانات لتدريب خوارزميات الذكاء الاصطناعى؛ فكلما كانت النصوص كثيرة صار تعلم الآلة يسير بشكل أفضل، وزادت نسبة الإجابات الصحيحة، مهما كانت التطبيقات التى نحن بصدد بنائها.
ومن نافل القول إن حوسبة اللغة العربية مجال عمل بحثى وأكاديمى قائم بذاته فى العالم، وفى بعض الجامعات العربية ومراكز الأبحاث العامة والخاصة، وتوجد بعض التطبيقات والبرمجيات المتاحة، ولكن، للأسف، من الصعب الوصول إليها والاعتماد عليها، لأسباب تقنية، ولعدم تضافر الفرق البحثية فى المجال فى العالم العربى.
ثمة اليوم فى العالم الكثير من التطبيقات الحاسوبية التى تعالج اللغة العربية آليا، وثمة أيضا الكثير من المراكز البحثية الأكاديمية المتخصصة فى هذا الشأن، ولكن ليس هناك منتجات فعلية متاحة بسهولة، وفى المختبرات الغربية أيضا، ثمة الكثير من العاملين فى مجال حوسبة اللغة العربية، وخصوصا بعد أحداث 11 سبتمبر، ويرتبط ذلك بالمراقبة الآلية لكل ما يكتب فى العالم العربى، ولكن حضور اللغة العربية على الإنترنت ما زال ضعيفا مقارنة بباقى اللغات التى يعد تعداد الناطقين بها أقل بكثير من المتحدثين بالعربية، فحضور اللغة العربية على الشبكة لغاية شهر أكتوبر 2019 كان يأتى فى المرتبة 17 عالميا، على الرغم من أن اللغة العربية هى الخامسة عالميا، علما أن التقنيات تقدم خدمة لها، وذلك من خلال تعزيز انتشارها وأرشفتها وترجمتها، لأن العمل حاليا لا يتطلب إلا العقل البشرى الذى يعد رأس المال الحالى، شرط أن نتعامل معها بحكمة!
استطرادا، من الممكن أن تكون خوارزميات الذكاء الاصطناعى على نسبة عالية من التعقيد لكى تساعد فى حل المسائل المتكررة، وهى متصلة بقواعد بيانات ضخمة على مستوى العالم، ولكن هذه الخوارزميات تعمل على اختيار الإجابات بحسب نسبة الاحتمالات التى تعطيها الحواسيب المتشابكة.
حتى الآن من الصعب بناء «ذكاء اصطناعى» للآلات وفق مبادئ الذكاء البشرى. وعندما يحصل ذلك لن يستطيع الإنسان السيطرة عليه. وتكمن صعوبة صياغة الذكاء فى التمثيل الثنائى للمعلومات التى هى عبارة عن رموز للتمثيل الفيزيائى للشحنات الكهربائية التى تعمل على تبادل الإشارات فى الحواسيب ونقلها. ففى الحواسيب، تأتى النتائج من خلال حلول ملائمة مسبقا للمسائل. أما نقل الإشارات فى الدماغ البشرى فهو عملية معقدة، نظرا إلى تداخل العديد من الخصائص الفيزيائية والكيميائية، ذلك أنه مؤلف من 86 إلى 100 مليار خلية عصبية، وكل خلية عصبية متصلة بما يقارب 100000 خلية مجاورة. وهناك ما يقارب 100000 مليون رابط مع الخلايا المجاورة، وفى كل واحدة منها علاقات مشفرة تنقل الإشارات من خلية إلى أخرى، أى يوجد ما يقارب 100 مليار معالج للمعلومات تساعد الإنسان على التواصل، كما أن القرارات التى يتخذها غير محددة مسبقا.. والتفكير يصاغ على أساس وصلات جديدة ومتجددة باستمرار.
كذلك، إن ذكاء الآلات ليس سوى حساب لشحنات إلكترونية داخل الحاسوب، والإنسان هو من يعطى هذا الحساب معنى. فالفروقات بين الذكاء البشرى والذكاء الاصطناعى ما زالت عميقة، والذكاء الاصطناعى هو، حتى اليوم، اصطلاح دعائى، ذلك أن الحواسيب تقدم أجوبة وفقا للخوارزميات التى كتبها الإنسان.
لحسن الحظ، إن الذكاء البشرى ليس رقميا، وإلا كنا جميعنا متشابهين أو مستنسخين، وأرجو ألا نصل إلى هذه الحالة التى تنتهى بها فردانية كل شخص وخصوصيته، وتنتهى بالتالى هويتنا، إن الخوف من التقنيات لا يكمن فى محاولة بناء برمجيات تحاكى الذكاء البشرى، بل تقريب الإنسان وترويضه ليصبح كالآلة!
النص الأصلى من هنا