يُعد الكاتب الفرنسى (فولتير Voltaire 1694 - 1778) من أهم فلاسفة عصر التنوير فى القرن الثامن عشر، دعا إلى التسامح وهاجم بشدة التعصب الدينى، وقد عُرِف بأسلوبه الساخر فى كل كتاباته، والسخرية صورة بديعية ذهنية تختلف عن الصور البديعية التقليدية مثل الاستعارة والكناية والتشبيه...، وكلاهما يُعرف فى علم اللغويات بالأسلوب الضمنى.
تعتبر «السخرية» من أعقد الصور البلاغية وأخطرها حال تفسيرها، لأنها تشترط أن يكون المرسل والمتلقى على نفس المستوى العلمى والثقافى معا، وفى حالة عدم توافر هذا التكافؤ فإن الرسالة تفسر بعكس ما أراد لها المُرسل أو الكاتب! وللتوضيح إذا تحدث رجل يسكن المدينة مع أحد المزارعين ليسخر من سوء حالة الجو ليوم ممطر ومُترب بقوله: «الجو جميل جدا»!، فإن المزارع سيأخذ العبارة على علتها لأن الأمطار ستروى أرضه الزراعية، والأتربة ستساعد فى تنقيح الأشجار، بينما الأول يريد أن يقول العكس، ومن هنا يأتى سوء التفاهم بين الاثنين وعليه لا تصل رسالة رجل المدينة إلى المزارع كما أراد!.
لهذا السبب، وفى حالة استثنائية، خالف فولتير أسلوبه فى مسرحيته الشعرية الموسومة «زائير» (1732) (Zaïre)، ــ وعلى عكس طبيعة الأعمال الأدبية التى لا تخلو أبدا من الخطاب الضمنى ــ استخدم فيها الخطاب الصريح والمباشر، الذى لا يُستخدم إلا فى نقل أخبار الساعة أو أحداث تاريخية، كأن نقول: «فى 6 أكتوبر، عبرت جنود الجيش المصرى إلى سيناء لتحريرها من الاحتلال الإسرائيلى».
اختار فولتير هذا الخطاب الصريح فى مسرحيته حتى تصل رسالة مهاجمته للتعصب الدينى دون أى لبس، فاستخدم تقنيات أسلوبية ولغوية مكنته من مهاجمة الفكر الغربى العنصرى الذى ارتدى رداء الدين فى هذا العصر، وانتقد المتعصبين من أصحاب العقائد الدينية، فدعا أهل حضارته أن يُحكِموا عقولهم وأن ينظروا إلى الشرق الإسلامى بنظرة موضوعية بعيدة عن التعصب والعنصرية، وقد لخص فكرته فى حوار دار بين بطلة المسرحية «زائير» التى تربت فى بيت السلطان العربى المسلم (صلاح الدين) الذى حرر القدس وبين وصيفتها المتعصبة التى تمانع من زواجها من السلطان المسلم، فوصفته بقولها:
«كريم، وخيِّر، وعادل، وملىء بالفضائل،
ولو كان مسيحيا ماذا سيكون أفضل من ذلك؟» (البيتان 1085ــ1086).
والمسرحية لعب فيها أشخاص من مخيلته، وأخرى من الواقع التاريخى مع تحريفات فى التواريخ، وتدور أحداثها فى القدس، وتروى قصة فتاة اسمها «زائير» اعتبرها ابنة أحد ملوك فرنسا (Guy de Lusignan) جى دو لوزينيان 1159ــ1194)، الذى احتل القدس بعد أن دمر المدينة، وعين نفسه ملكا عليها من 1186ــ1192، أُسِرَت زائير فى إحدى الحروب الصليبية بعد طَرد أبيها من القدس، ولكنها نشأت فى بيت السلطان المسلم «أوروسمان» (فى إشارة إلى صلاح الدين)، الذى أحسن تربيتها ومعاملتها، فوقعت فى حبه وطلبها للزواج، وطلبت منه أن يُفرج عن كل من أسرهم وعلى رأسهم «نيريستون» ابن الملك الصليبى المهزوم ــ اللذين يعتقدان «بفساد» عقيدة أوروسمان المسلم ــ ولكن قصة الحب لم تكتمل نظرا لتدخل أطراف كثيرة متعصبة فى الفكر وفى الدين من الجانبين.
كانت وصيفة زائير (فاتيم) تحرضها ضد هذا الزواج، فتذكر لها عيوب العرب والمسلمين، وكان من الجانب الآخر وزير السلطان يذكر له مساوئ المسيحيين، وتنتهى المسرحية بأن يبتدع المؤلف موقفا دراميا يسمح له باستعراض أفكاره صريحة دون أدنى لبس فيستخدم تقنية «الالتباس فى الشخصيات» إحدى أهم التقنيات لكشف الحقائق ــ أن تأخذ شخصا مكان شخص آخر بالخطأ ــ وذلك عندما وقعت فى أيدى السلطان رسالة من «نيريستون» إلى زائير يحدد لها مكانا لمقابلته، ويرسم فيه خطة الهروب معه لمنع الزواج من السلطان، واصطحابها إلى وطنها وأهلها، ويذهب أوروسمان إلى المكان الموعود ويجد زائير، فيعتقد أن حبيبته تخونه مع ابن الملك الذى أفرج عنه، فيقتلها، ولكن عندما يدخل عليهما نيريستون ويرى جثة زائير يصرخ مناديا إياها «أختى»! فيكتشف السلطان أن زائير كانت بريئة فيقتل نفسه، وتنتهى قصة الحب بتراجيديا مؤلمة يموت فيها الحب ويحل محله القتل بسبب التعصب الدينى!
***
هكذا أوضح فولتير فى مسرحيته أن التعصب الدينى ينتج الكراهية والقتل، وأن الإنسان يجب ألا يُحاسبه أحد على عقيدته، ولكن على تعامله مع الآخر، وعلى إسهاماته فى الحياة الدنيا، فهل مصر والمصريون مازالوا يعيشون القرن الحادى عشر؟ يُكفرون بعضهم البعض، ويُفتشون فى النوايا وفى العقائد، ويركنون إلى الغيبيات، وينكرون العقل، ويتركون العمل، وينسون أن «الدين المعاملة»!
هكذا نرى ــ من خلال فولتير ــ أن صلاح الدين أو Saladin (شهرته فى الغرب) فى عيون الغرب، أيقونة التسامح والسلام والحكمة والمروءة.. صفات كثيرة حميدة عددها فولتير فى المسرحية، بينما نرى لدينا من الساعين للشهرة من يحاولون أن يطمسوا حقائق التاريخ بالبحث عن مساوئ لا يخلو منها أى إنسان حتى الأنبياء، كما يقول يوسف عليه السلام: «وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِى إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ»، وهذا ما علمه لنا أيضا السيد المسيح عليه السلام «من منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر»، أما الذين «يُحقرون» الناس، ويسعون للشهرة على حساب الحق والحقيقة، ومن يفتون بالباطل على شاكلة فتوى «إرضاع الكبير»، ومن يصفون عقائد الآخرين بـ«الفاسدة»، فهؤلاء حقا هم من يسعون فى الأرض فسادا، معتقدين أنهم يحسنون صُنعا فى الحياة الدنيا!
نقول لأى متعصب لعقيدته: لو أنك خلقت على دين عُبّاد النار أو عُباد الأبقار لكنت ستحارب كل من يخالفك فى عقيدتك، حتى لو كان من أصحاب الديانات السماوية! دعوا الخلق للخالق، واعملوا فى مناكبها بالحق والعدل والجد، أو كما دعا فولتير فى قصته الشهيرة «الصنديد» أو«الطيب» (Candide) (1759)، حيث طالب بالابتعاد عن الغيبيات وبالاهتمام بالعمل، وكان عنوان فلسفته على لسان الدرويش المغربى الذى يعبد الله دون البحث فى الغيبيات «لنزرع حديقتنا»، أى «هيا بنا إلى العمل المثمر»!.
***
من ناحية أخرى، يجب على الإعلام أن يقدم لنا المواد التى تنفع الفرد والمجتمع، ويبتعد عن المواد الخلافية خاصة فى العقائد الدينية، وينصح الناس بعدم التفتيش عما فى قلوبهم، بدلا من أن يفرضوا علينا رجال الدين ليفسروا الآيات المقدسة، وهو عمل مكانه قاعات الدرس فى الكليات المتخصصة، كما يجب على المؤسسات التعليمية تعليم التلاميذ فى المدارس والطلاب فى الجامعات ــ ما تنبه إليه أخيرا فضيلة شيخ الأزهر وقداسة البابا ــ مادة «الأخلاق» التى لا تتعارض البتة مع جوهر الأديان، وأهم مفاهيمها تحكيم «الضمير»، هذا القانون الأخلاقى الذى كان أول من تحدث عنه الفيلسوف الألمانى إيمانويل كانط (1724ــ 1804)، وقاعدته الأساسية «حاسب نفسك، وعامل الناس كما تحب أن يعاملوك»، وهو ما لا يختلف عن قول النبى عليه السلام: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»، هذا المبدأ يُعاديه المتحدثون باسم الدين الذى يحاولون من خلاله البحث عن «تبريرات» لأعمالهم المخالفة للسلوك القويم بالبحث عن أحاديث مكذوبة أو ضعيفة وعن تفاسير مغلوطة ليُشرعوا دوافع النفس البشرية «الأمارة بالسوء» بطبيعتها، أو يبحثوا عن مظهر خداع يحتالون به على الناس مثل ارتداء الجلباب القصير أو إطلاق اللحية أو إجبار المرأة على ارتداء زىّ يدّعون أنه من ضرورات الدين...الخ.
إن أسوأ ما فى نظامنا التعليمى ووسائل إعلامنا أنها لم تعلمنا مبدأ«الصواب والخطأ»، وعلمتنا وأسمعتنا فقط «الحلال والحرام»، وكأن بين المفهومين خلاف أو تضاد، إن البحث عن «الحلال والحرام» يتطلب الرجوع إلى شخص آخر ــ غالبا ما يكون رجل الدين ــ وليس الاحتكام للعقل، وهكذا يُكوِن نظامنا التعليمى الإنسان «المُنقاد» أو«التابع»، وليس «المستقل بذاته»، ولا المبدع، ولا المفكر الذى يُعمل عقله ــ أكبر نعمة من الله تمييزنا عن جميع المخلوقات الأخرى ــ، فالدين الصحيح ليس فيه ما يخالف العقل والمنطق، ومن دعوات النبى محمد عليه السلام «استفت قلبك»، ولم يقل استفت شيخا، والقلب هنا هو العقل كما فى قوله تعالى: «خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ» أى «الذين لا يعقلون»، وطالبنا الله بسؤال أهل الذكر فيما فيه نص غير خلافى مثل أحكام الميراث والزواج، والله أعلم.