الحديث عن الدولار له أوجه متعددة: سياسية ومالية وأخرى عسكرية تؤثر على العالم أجمع، وذلك باعتباره عملة أقوى وأغنى دولة في العالم؛ صدر الدولار 1792، وكان أول الأمر يساوي (24.057) جرامًا من الفضة، وبعد 1837 تعدلت قيمته لتصبح 20.67 دولارًا لكل أونصة (31.1 جراماً من الذهب)، وكان أول ربط للدولار بالذهب 1900، وفي 1934 رُفع مقدار الدولار أمام الأونصة إلى 35 دولار.
ونتيجة لمساعدات الولايات المتحدة لحلفائها في أوروبا لإعادة بناء اقتصادياتهم بعد الحرب العالمية الثانية تأثر الدولار ومرَّ بأزمة كادت تقضي عليه، لأنه لم يعُد قادرًا على حفظ قيمته بالذهب، وعليه أصدر رئيس الولايات المتحدة ريتشارد نيكسون 1971 سلسلة إجراءات لحمايته من الانهيار.
كانت أهم الإجراءات إلغاء ربط الدولار بالذهب وسُميت بـ"صدمة نيكسون" (Nixon shock)، وكان من نتائجها إنهاء أسعار الصرف الثابتة للدولار، وتعويمه طبقًا للعرض والطلب، فتهاوت قيمته بسرعة مقابل الذهب، ولم يتعافَ إلا عندما أبرمت الولايات المتحدة في نفس العام صفقة مع السعودية لتوحيد جميع معاملات النفط بالدولار، وأصبح النفط بديلا عن الذهب بالنسبة للدولار باعتباره سلعة استراتيجية.
ولكن النفط غير الذهب، فنظرًا لتغير أسعاره من وقت لآخر، أدى لانتشار ظاهرة التضخم خاصة في الولايات المتحدة، لأن تعويم الدولار أعطى الولايات المتحدة حرية طبعه دون حسيب أو رقيب، وعليه تآكلت قيمته.
ومن الجدير بالذكر أن التضخم نوعان: الأول "صحي" في دول الفائض الاقتصادي، والثاني "مرضي" في الدول المُتعثرة، وكلاهما خطر على اقتصاد البلاد، ولكن "المرضي" أخطر؛ "الصحي" كإنسان يعيش في رغد وترف لغناه، فتزداد قوته البدنية ووزنه، إلا أنه يصبح في لحظة معينة مطالبًا بعمل "رجيم" للحفاظ على صحته من الضغط والسكر والسمنة...، كذلك العملة القوية يرتفع سعرها مقابل العملات الأخرى فتؤثر سلبًا على منتجات الدولة لصعوبة تسويق منتجاتها لغلائها، بالمقارنة بأصحاب العملات المنخفضة، ومن وسائل علاجه تقليل نسبة الفوائد على العملة للحد الأدنى، ويمكن أن تصل للسالب مثلما في اليابان، فهو كـ"الرجيم" الذي يوصف للإنسان ليحافظ على صحته!
ونذكر- على سبيل المثال- قوة الين الياباني التي أُجبِر بنكها المركزي في غضون يومَيّ 16-17 أغسطس 1971- بعد صدمة نيكسون- على شراء 1.3 بليون دولار لدعم الدولار، وللحفاظ على السعر القديم للين، وذلك لحماية المنتجات اليابانية في الأسواق العالمية، ولحماية الدولار أيضًا من الانهيار.
وأما التضخم "المرضي" فيُسبِّب البطالة والاقتراض والديون وتباطؤ التنمية، كما يمكن أن يؤدي للإفلاس! ووسائل علاجه عكس "الصحي"، فرفع الفوائد البنكية على العملة أول خطوة، وثانيها خفض قيمة العملة؛ هذا ما فعلته الولايات المتحدة بعد صدمة نيكسون؛ انخفض الدولار بمقدار الثلث، فأدى لركود السبعينيات، وخُشِي أن ينهار بسبب المرونة في إصداره، وبدى انهيار البورصة 1987 كانهيارها في الولايات المتحدة 1929.
• • •
كان نيكسون ومعه الكثيرون يعتقدون أن "صدمته" ستؤدي لنجاح اقتصادي، لكن الرياح أتت بما لا تشتهي الأنفس؛ تنبأ كبار الاقتصاديين بانهيار الدولار، ومن بينهم الاقتصادي الشهير الدكتور عيسى عبده (1901-1980) أستاذ الاقتصاد الإسلامي بكلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر، أكد بإحدى ندواته 1975 (بعد انتصار 1973) أن الدولار سينهار بنهاية الثمانينيات، لأن السياسة النقدية للولايات المتحدة تتبع "لبِّس طاقية ده لده"، فالدولار لم يعد له القوة الإنتاجية الكفيلة لمساندته ولحمايته!
من المعروف أن المحرك الأساسي للاقتصاد الأمريكي تصنيع الأسلحة وتسويقها في العالم، فهو مبني على إشعال الحروب في أماكن متفرقة لتسويقه؛ ساد العالم بعد الحرب العالمية الثانية الحرب الباردة –أي السياسية- بين العالمين الغربي والشرقي ممثلا في الإتحاد السوفيتي سابقًا، ولكن بدأ الصراع الساخن في الشرق الأوسط بنكبة 1948، وتلاها انتصار مصر على العدوان الثلاثي 1956، الذي كان أهم تداعياته انتهاء سطوة فرنسا وإنجلترا على العالم، ثم كانت هزيمة 1967.
كانت للحروب الثلاثة تداعيات سياسية فقط، ولم يكن لهم تأثيرات اقتصادية تُذكر على العالم، على عكس حرب 1973 التي انتصر فيها جيش مصر العظيم، فقد اندلعت بعد ثبات عميق، واطمئنان كامل لعدم تغير الوضع في الشرق الأوسط، وبسبب هذه الحرب أحست الولايات المتحدة بالصدمة الشديدة لأن الشعور المطلق كان لدى إسرائيل والغرب والشرق أيضًا أن قوة الجيش الإسرائيلي بأسلحته الحديثة الأمريكية لا يمكن أن تُهزم!
في الحقيقة، لم تقلب حرب 1973 الموازين العسكرية في العالم، ولكنها قلبت أيضًا الموازين الاقتصادية، كان من المتوقع– كما سبق القول- أن الولايات المتحدة ستعود لسياسة ربط الدولار بالذهب بعد فترة قليلة من صدمة نيكسون- كما صرح بهذا الرئيس نيكسون- إلا أن قطع إمدادات البترول عن الدول الغربية الذي اتخذته الدول المنتجة بقيادة المرحوم الملك فيصل آل سعود، أدى إلى تضاعف سعر البترول، من أربعة إلى أربعين دولارًا! تأثرت سلبًا كل اقتصاديات العالم، وعليه تعطلت مشاريع التنمية في العالم، وسادت البطالة والتضخم والكساد، فكانت السبعينيات بالنسبة للولايات المتحدة سنوات عجاف، وبدأت تتضح منذ ذلك التاريخ ملامح انهيار الدولار!
كما بدت نبوءة عيسى عبده تصبح حقيقة، ولكن اندلعت حرب الخليج الأولى 1980: الحرب العراقية الإيرانية، ودامت لثماني سنوات لتكون أطول نزاع عسكري في القرن العشرين، انتهت بلا انتصار لأحد، وخلّفت خسائر 400 مليار دولار، صبت أغلبها لصالح الخزانة الأمريكية لأنها أكبر ممول للسلاح في العالم!
ورغم هذا لم يفلت الدولار من شبح الانهيار الذي تنبأ به عيسى عبده، فاندلعت في أغسطس 1990 وحتى فبراير 1991 حرب الخليج الثانية، حيث نجحت الولايات المتحدة في الإيقاع بصدام حسين في الفخ الذي نصبته له سفيرتها في العراق كاثرين غلاسبي بعبارتها المشهورة له: "ليس لدينا أي رأي بشأن صراعاتك العربية العربية مثل نزاعك مع الكويت، وأن قضية الكويت ليست مرتبطة بأمريكا"، وبلغت تكلفة تحرير الكويت نحو تريليون و140 مليار دولار، جنت منها الولايات المتحدة النصيب الأكبر ثمنًا لمشاركة جيشها، كما أدت إلى فورة في أسعار النفط لفترة قصيرة ما لبث أن هبط سعر البرميل بعدها من 22 إلى 17.80 دولارًا للبرميل!
وبذلك نجحت الولايات المتحدة في تأجيل تاريخ انهيار الدولار في التسعينيات، لكن مسلسل جنيّ الأرباح لتنشيط مصانع السلاح بأقصى قدر بالحروب المفتعلة يستمر على الدول شديدة الثراء في الخليج، فتقع في 11 سبتمبر 2001 حادثة انهيار برجي مركز التجارة العالمي والبنتاجون، بعملية شديدة التعقيد في ظروف غامضة وبتفسيرات عبثية نسبها لنفسه أسامة بن لادن قائد تنظيم القاعدة بعصاه الشهيرة بمقره في جبال بورابورا بأفغانستان!
نتيجة لهذا الهجوم، شنت الولايات المتحدة في أكتوبر 2001 حربًا ضد تنظيم القاعدة في أفغانستان، وأشعلت- من جديد في مارس 2003 بالتحالف مع بريطانيا- حرب الخليج الثالثة بالمخالفة لميثاق الأمم المتحدة، وسقطت بغداد بتكاليف باهظة دفعتها الدول الخليجية المتضررة من نظام صدام حسين!
وبعد سقوط العراق، قامت ثورات الربيع العربي نهاية 2010 ومطلع 2011، فسقطت أنظم عربية مستبدة، وبدأت معها رياح الحرية وأمل الشعوب في تأسيس نظم ديمقراطية، لولا انحياز الولايات المتحدة لتوجهات جماعات الإسلام السياسي الذي يخلط السياسة بالدين، والذي كان سيؤدى حتمًا لحروب أهلية تسقط فيها كل دول هذه الثورات تطبيقًا لنظرية "الفوضى الخلاقة"، ولولا ثورة 30 يونيو، ودعم الجيش المصري لها– كما دعم من قبل ثورة 25 يناير- لتحققت كل أهداف الإمبريالية الأمريكية، وسقطت كل الدول العربية في غياهب الجب!
• • •
بعد استنفاذ كل ما يمكن من الشرق الأوسط، هرعت الولايات المتحدة لشن حروب جديدة دفاعًا عن عالمها أحادي القطب، فنصبت فخًا لروسيا لتستنزفها عسكريًا واقتصاديًا، كما حدث من قبل بتدخل الاتحاد السوفيتي في أفغانستان، وكان سببًا في انهياره، ولربما تستطيع جر الصين منافسها الاقتصادي الأخطر لنفس المصير؛ لم تُبدِ الولايات المتحدة رد فعل عنيف ضد احتلال روسيا لشبه جزيرة القرم 2014، فأعطت مع حلفائها انطباعًا بعدم القدرة على رد الغزو الروسي مما طمع الرئيس الروسي بوتن لغزو أوكرانيا بأكملها، واعتبار القرم جزءا من روسيا (كما ضمت العراق الكويت واعتبرتها المحافظ رقم 19)!
أراد الرئيس بوتين تأمين جبهته الغربية باحتلال أوكرانيا، ولكنه فوجيء بطلب انضمام الدولتين المحايدتين فنلندا والسويد لحلف الناتو، ليفتح الغرب عليه جبهة جديدة فيضطر لدفع قوات لحمايتها واستنفاذه، إنها هزيمة النظم التي لا تقبل مشاركة الرأي الآخر: من إغلاق مضيق تيران فهزيمة 1967، ولاحتلال أفغانستان 1979 فتفكك الاتحاد السوفيتي 1991، ولاحتلال الكويت 1990 فسقوط العراق 2003...، وأخيرًا محاولة احتلال أوكرانيا! هكذا تضيع الأوطان: إنها كوارث الرأي الواحد دائما! ومقولة فخامة الرئيس: "الخلاف في الرأي لا يفسد للوطن قضية" هي الحل.
• • •
لا يمكن فصل هذه الأحداث عن رفع الفوائد البنكية على إيداعات الدولار في البنوك الأمريكية لمعالجة التضخم المتنامي في الاقتصاد الأمريكي، إنها الحروب دائما لإنقاذ العملة الخضراء!
وتأكيدًا لفكرة انهيار الدولار، أوضحت الخبيرة الاقتصادية ميريت ذكي في كتابها "نهاية الدولار" La fin du dollar (2011)، أن خزائن الدولار انخفضت عالميًا من 70 إلى 50%، وهذا دليل على أن العالم يعمل على الخروج من دائرة الدولارDédollarisation ، والبحث عن عملة جديدة تحل محله، كما أوضحت في كتابها الأخير: "التضليل الاقتصادي" (2022) Désinformation économique أن التضليل الإعلامي فيما يخص الإحصائيات الاقتصادية والمالية لا يقتصر على الدول السلطوية في العالم الثالث، ولكن كل الدول الغربية تعمل على تجميل موقفها الاقتصادي بالمبالغة في النجاحات والتقليل من الخسائر لخداع المنافسين!
لكل شيء نهاية، ولكن نهاية الدولار لن تكون بين ليلة وضحاها، فخسائره المستمرة وكسر سطوته هي بداية النهاية مهما طالت الحروب، والبحث عن البديل أصبح حقيقة واقعة، فدوام الحال من المحال.