ما الذى زُرِع فى المخبأ؟
إن زرع الأجهزة من طرف عملاء الموساد مسبقا فى الموقع الذى حددته الاستخبارات العسكرية كمخبأ سيجتمع فيه نصر الله بمستشاريه، هو ما أتاح تنفيذ عملية اغتياله؛ وفى تمام الساعة 18:20 مساءً، بتاريخ 27 سبتمبر من العام الماضى، ألقت 10 طائرات من سلاح الجو 83 قنبلة، تزن كل واحدة منها طنا، على المنطقة التى كان يقع تحتها المقر السرى العميق لحزب الله. شاركت فى العملية طائرات F-15I («الرعد») من السرب 69 («المطارق»)، إلى جانب طائرات F-16I («العاصفة») التى ألقت قنابل أمريكية الصنع من نوع BLU-109، المعروفة فى سلاح الجو باسم «البرد الثقيل»، وكانت تلك القنابل مزودة بآلية توجيه خاصة إلى الهدف، فضلاً عن نظام GPS.
فى البداية، كان من المخطط استخدام نصف هذا العدد من القنابل فقط، لكن وزير الدفاع، آنذاك، يوآف جالانت أصرّ على مضاعفة العدد لضمان عدم نجاة نصر الله من القصف.
قُتل إلى جانب نصر الله كلٌّ من على كركى، والجنرال الإيرانى، ونحو 300 شخص آخر، هم فى معظمهم، من عناصر حزب الله الموجودين فى المنطقة. شكّل هذا القصف واغتيال زعيم الحزب الشيعى ضربة قاصمة لحزب الله.
الرد من حزب الله
ردّ التنظيم اللبنانى بإطلاق صواريخ، وطائرات مسيّرة انتحارية، وصواريخ مضادة للدروع، فى اتجاه إسرائيل، وأُطلق على الهجوم اسم «خيبر»، نسبةً إلى الهزيمة التى ألحقها المسلمون باليهود فى شبه الجزيرة العربية فى زمن الرسول. فى موازاة ذلك، عيّن مجلس الشورى التابع لحزب الله هاشم صفى الدين، رئيس المجلس التنفيذى، خليفة لنصر الله. وبعد أسبوع واحد فقط، فى 4 أكتوبر 2024، تم اغتياله بالطريقة نفسها، فخلَفَه فى المنصب نعيم قاسم.
إن الطريقة التى اعتمدها الجيش الإسرائيلى وجهاز الموساد والقيادة السياسية لإزالة التهديد الوجودى الذى شكّله حزب الله، بكل منظومة الصواريخ والطائرات المسيّرة الانتحارية التى بناها، ستُدرَّس حتما، أعواما عديدة، فى الكليات العسكرية والمعاهد الاستراتيجية.
فيما بعد، تم تباعا اغتيال صفوة قيادة حزب الله كلها تقريبا، وتُوِّج ذلك بعملية «نظام جديد» التى جرى فيها القضاء على نصر الله. إلى جانب ذلك، ضرب الجيش الإسرائيلى بشكل منهجى خلايا الصواريخ المضادة للدبابات لدى الحزب وراجمات الصواريخ التى كانت ظاهرة فوق سطح الأرض، الأمر الذى أسفر عن مقتل عدد كبير من عناصر الحزب، فضلاً عن عملية «البيجرات» التى أصابت آلاف المقاتلين.
يمكن الافتراض أن اغتيال القادة نجح فى تعطيل قدرات القيادة والسيطرة لدى حزب الله بشكل شديد . وما لا يقلّ أهميةً عن ذلك، أن القضاء على القيادة جرى بوتيرة سريعة، وبأحجام كبيرة، وهو ما ضاعف من الأثر - لأن منظمة كهذه، وخصوصا إذا كانت دينية ــ أصولية ــ جهادية، تميل إلى إنتاج قادة ميدانيين جدد وقيادة بديلة، على غرار ما يحدث الآن فى غزة، على سبيل المثال.
فى الواقع، كادت إسرائيل تفوّت الفرصة فى قتل زعيم حزب الله: عندما وردت «معلومة ذهبية» تفيد بأنه سيجتمع بمستشاريه يوم الجمعة فى المخبأ السرى، كانت الآراء منقسمة فى القمة الأمنية - السياسية فى إسرائيل؛ فقال رئيس الأركان هرتسى هليفى ووزير الدفاع غالانت إنه على الرغم من أن قتل نصر الله مرغوب فيه، لكنه قد يؤدى إلى فتح جبهة شديدة فى الشمال -بما فى ذلك سوريا والإيرانيون - تعقبها حرب إقليمية - وأنه يجب تنسيق الهجوم مقدما مع بايدن. عمليا، كان مثل هذا التحديث يعنى استبعاد إمكان قتل زعيم المنظمة اللبنانية، لأن الرئيس الأمريكى ومَن حوله كانوا يعارضون أى خطوة قد تؤدى إلى حرب شاملة.
على النقيض، طالب رئيس الموساد وآخرون فى الكابينيت الضيق بتنفيذ الاغتيال - وبالتالى بعدم تنسيقه مسبقا مع بايدن وفريقه. تجنّب نتنياهو هذين المطلبين، وتردد وقرر عدم اتخاذ قرار. هذا النقاش دار فى الليل، وفى صباح اليوم التالى، سافر نتنياهو إلى الأمم المتحدة، وفى ساعة مبكرة من الصباح (بتوقيت إسرائيل)، وفى أثناء الطيران، اتّخذ القرار بقتل نصر الله، بعد معلومات استخباراتية، مفادها بأن هذه الفرصة قد لا تتكرر.
فى البداية، اتصل رئيس الحكومة وأعطى توجيها لأحد قادة المنظومة الأمنية بشأن تنفيذ الاغتيال؛ لكن تلك الشخصية طلبت أن يُتّخذ القرار ضمن إجراء منظّم. وصل نتنياهو إلى نيويورك، وخلال مكالمة هاتفية من مقره، تشاور مع رؤساء جهاز الأمن ووزراء منتخبين - وهناك اتُّخذ القرار النهائى بشأن تنفيذ الهجوم.
الخداع الذى أسقط نصر الله
هناك عامل آخر ساهم بشكل حاسم فى هزيمة حزب الله، وهو الخداع الذى ابتدعه قسم العمليات فى الجيش الإسرائيلى، ونجح فى نصب فخ لزعيمه. حتى بعد عملية تفجير «البيجرات» وأجهزة الاتصال التى نفّذها الموساد والجيش فى 17 و18 سبتمبر، لم يفهم نصر الله أن إسرائيل فتحت هجوما شاملاً ضده، فظل متمسكا بما يُعرف بـ «منهج المعادلات» لديه، الذى يرى أنه إذا ضربت إسرائيل هدفا عسكريا - هو يرد على أهداف عسكرية؛ وإذا إسرائيل تضرب ما يراه مدنيا، هو يرد على أهداف مدنية.
كانت هذه الاستراتيجية انعكاسا لمفهوم «بيت العنكبوت» الذى طرحه نصر الله فى سنة 2000، ومفاده بأن إسرائيل، على الرغم من قوتها العسكرية، دولة مُنهكة من الحروب، وشعبها لا يملك القدرة على الصمود، أو الرغبة فى المعارك الطويلة.
لكن نصر الله، وإن لم يكن على خطأ كليا، تجاهل ما يسميه الإسرائيليون «الحقيقة الجينية»، وهى أن الشعب اليهودى، بعد «الهولوكوست»، يتوحد تلقائيا، ويُظهر صمودا وطنيا فى أوقات الحرب والخطر الوجودى، وهذا الصمود الوطنى فاجأ نصر الله.
كان نصر الله مقتنعا بأن إسرائيل لن تجرؤ على شن حرب إبادة ضد منظمته، ومن المؤكد أنها لن تجرؤ على اغتياله، خوفا من الرد بوابل من عشرات آلاف الصواريخ والطائرات المسيّرة.
ما عزز هذا الغرور لدى نصر الله، هو أن المحور الشيعى بقيادة المرشد الأعلى الإيرانى على الخامنئى، كان يرى فيه «الرئيس التنفيذى للشرق الأوسط»، وبشكل خاص بعد اغتيال قائد «فيلق القدس» قاسم سليمانى فى 3 يناير 2020، ويقول مسئول كبير فى الاستخبارات الإسرائيلية: «منذ ذلك الحين، قاد نصر الله المحور الشيعى بأكمله فى كل ما يتعلق بالحرب ضد إسرائيل - بما يشمل الحوثيين فى اليمن والميليشيات الشيعية فى العراق، وحتى قوة القدس فى سورية ولبنان».
لكن نصر الله، الذى ظن أنه يفهم المجتمع والسياسة والعقلية العسكرية الإسرائيلية أكثر من أى شخص آخر، لم يدرك أن إسرائيل بدأت بمهاجمته فعليا، فلو ردّ على عملية «سهام الشمال»، بكل ما لديه من قوة، وطلب الدعم من الإيرانيين، ربما كان حزب الله سيتعرض لهزيمة قاسية ومُهينة، لكن نصر الله نفسه كان سيبقى فى قيد الحياة، ويعيد بناء الحزب بدعم من طهران. وكانت الجبهة الداخلية الإسرائيلية ستتلقى ضررا كبيرا، وربما كانت إسرائيل ستضطر إلى وقف الحرب.
صحيح أن اغتيال نصر الله كان نقطة تحوُّل مهمة فى الحرب، لكن شعبة الاستخبارات العسكرية فى الجيش الإسرائيلى تحذّر من الاستهانة بنعيم قاسم، الذى يُعرف بخطاباته النارية المليئة بالتوتر.
يقول ضابط كبير فى الشعبة: «هو قادر على قيادة الحزب، ووضع السياسات، حتى لو لم يكن نصر الله».
أمّا حزب الله نفسه، ففقد حلفاءه الرئيسيين، لكن الأخطر من ذلك، هو أن عمله من داخل الأحياء السكنية، أدى إلى عزلة بينه وبين القاعدة الشيعية التى يعمل ضمنها، حتى إنه خلق عداءً بين الطائفة الشيعية والطوائف الأُخرى فى لبنان، والتى تضررت هى أيضاً من الضربات الجوية.
الوضع الحالى
اليوم، يواجه حزب الله مطالب بنزع سلاحه، لكنه يرفض، وفى الوقت عينه، يرفض الأمريكيون إنقاذ لبنان من أزمته الاقتصادية العميقة، والتى يرى كثيرون أن حزب الله هو السبب الرئيسى فيها.
إن المستثمرين الأمريكيين لا يندفعون إلى الاستثمار فى دولة يظل فيها حزب الله القوة المسلحة الأساسية، القادرة على جرّ البلد إلى حرب جديدة مع إسرائيل فى أى لحظة.
يبدو كأن حزب الله مستعد لنزع سلاحه فى الجنوب اللبنانى، لأن الجيش الإسرائيلى قام ــ ولا يزال يقوم ــ بـ«تطهير» تلك المنطقة من بقايا السلاح الذى تم تخزينه هناك، لكن الحزب ما زال يحتفظ بكميات كبيرة من الصواريخ الدقيقة والطائرات المسيّرة فى شمال نهر الليطانى، والتى يمكن أن يستخدمها ضد إسرائيل، أو ضد طوائف لبنانية أُخرى.
إن قصة نصر الله انتهت، لكن قصة حزب الله لم تنتهِ بعد.
رون بن يشاى
يديعوت أحرونوت
مؤسسة الدراسات الفلسطينية