لما رَفضَ الانصياع للشُّروط الجائرة، ولما توقَّفت تجارته وتحوَّلت أعمالُه الرابِحة إلى مَصدر خسارة، ولما لم يجد من الإغلاق وإعلان الإفلاس مفرًا؛ حزن. انتهى حزنُه إلى مَرض وانتهى به المَرض إلى القَّبر. بعضُ المرَّات تكون الأحزانُ أعتى وأعظم قوةً من قُدرة الإنسان على الاحتمال؛ تهزمه شرَّ هزيمة وتُعلِن انتصارَها بلا رِفق ولا هوادة.
• • •
الحزين هو المُغتَم المُكدر ومثله المَحزون والحزنان، ويشير الفعل حَزِن إلى حال من الأسى والضيق، والمصدر هو الحَزَن، وكثيرًا ما يُقال عن الظُّروف والمُناسبات التى يغتنمها الناسُ لإظهار ما بهم من كَرب أنها مَحزَنة.
• • •
غنَّى كثير المُطربين للحزن ومُشتقاته وحواشيه. فى قصيدته التى قدَّمها كاظم الساهر، كتب نزار قبانى: «أن الإنسان بلا حزن ذكرى إنسان» والمعنى الذى تحمله العبارة صادق لأبعد الحدود؛ إذ الحزن جزءٌ أصيلٌ من الطبيعة البَشرية؛ مَن لم يحزن فى حياتِه قط فقد سقط فى هوَّة التبلد والجُّمود وظلَّ مثل سطح بلا عمق. غنى عبد الحليم من كلمات قبانى أيضًا: «وسيكبر حزنك حتى يصبح أشجارًا» والتشبيه فى محله؛ فالأشجار ذات جذور مُتشعبة مُمتدَّة تنغرس فى باطن الأرض حتى ليشقّ انتزاعها بل قد يستحيل؛ وعلى غرارها يكون الحَزَنُ ما تمكَّن من النفس وتوغَّل فيها.
• • •
من الناسِ من يميلُ ناحية المزاج الداكن، ومنهم المُنبَسط المُنشَرِح مُعظم الأحيان؛ ولا عجب إذ يقال إن الطَّبعَ يغلبُ التطبُّع؛ إذ السِّمات الشخصيَّة الأصيلة تطغى على مختلف الظُّروف والأحداث وتصبغها بلونها؛ تخفِّف من قسوَتِها، أو تعقِّد بساطتَها، أو تُكسِبها من الأهمية ما ليس فيها.
• • •
يُنقى الحزنُ الرُّوحَ ويشفها، ويَجعلها أكثر قُدرة على استشعار ما غيَّبته التفاصيلُ السَّخيفة وما حجبَه ركامُ الحياة؛ لكنه أحيانًا ما يتحوَّل إلى حال مُزمِنة، تأخذ من حيويَّة الإنسان وتُبدِّد إرادته، وتتركه فى يأسٍ مُقيم.
• • •
فى رواية «مالك الحزين» لابراهيم أصلان حُزنٌ مُستقِرٌ وأصيل؛ مبعثه حال من الاغتراب الذى يعيش فيه معظم الأبطال. تحوَّلت الرواية فى التسعينيات لفيلم بعنوان الكيت كات أخرجه داوود عبد السيد، وقد لعب دورَ البطولة محمود عبد العزيز؛ فكان أحدَ أروع ما قدَّم للسينما.
• • •
التعاطُف بين الناس والتآزر الذى يعم الجَّمع إزاء ما يقع من مَلمات وأحداث؛ كان سِمةً غالبة فى مجتمع ودود، خفيف الظل، سريع النسيان وميَّال للتسامح. يحزن الواحد لحزن الآخرين ويفرح لفرحهم بل ويغضب عنهم ولهم؛ جيران ومعارف وأقرباء وأصحاب، وربما أشخاص لم يرهم سوى مرة. لم يعد الأمر على المنوال ذاته، فالأسى مُتسيِّد ونبذ ما حل بغالب الناس من حزن يحتاج لجهد عظيم.
• • •
كثيرًا ما تسمع مقولة: «فى حزنكم مَدعيَّة وفى فرحكم منسية» وعادة ما يكون السياق مزيجًا من الحنق والسُّخط وربما الاستياء. رغم ما فى العبارة من ظلم يستشعره القائل؛ إلا أنها تعكس ضمنًا موقعه الأثير لدى الآخرين، ولا شك أن هؤلاء الذين نلجأ لهم دون تفكير فور أن نتعرض لكرب أو مصيبة؛ هم دومًا الأقرب إلينا، نجد الراحة فى حضورهم والسلوى فى مواساتهم والرغبة فى مشاورتهم والأخذ برأيهم، نريدهم بجانبنا ما انقطعت بنا السبل ولا نذكرهم ما استتبت الأحوال.
• • •
بعض المرات يلوم الناس من أصابته نازلة شديدة؛ فتجاهلها وراح يتزين ويبدى من أمارات السعادة ما لا يليق. يأتى الردُّ الفاصل حينها: «الحزن فى القلب»، والقصد أن المظهر لا ينم دومًا عن الدواخل. البعض قد يرتدى السواد ويتجنب مشاهدة التلفاز حال وقوع وفاة فى نطاق قريب، والبعض الآخر يفعل العكس فيتنقل بين القنوات ويبحث عن مسرحية أو فيلم ضاحك وينتقى من ملابسه ما اعتاد. قد يكون الحزن واحدًا لكن ردَّ الفعل مختلف؛ ثمَّة من يعيش مأساته كاملة فى لحظتها، ويؤدى الطقوس المرتبطة بها، وثمَّة من يهرب منها ويسعى لتجاوزها بمسلك نقيض، والحق أن الحُكمَ السَّطحى غالبا ما لا يَصدُق.
•• •
هناك مَن يحزن مِن، ومَن يحزن على. الحزن على شَخص أو شىء شعور أرقُّ وأنبل، يتعدى حدود الشخصنة والفردية ويتخطاها لحدود الآخر. ربما يحزن أب عند رسوب ولده؛ لا يحزن منه إنما يحزن على عدم جديته أو إهماله ومن ثم انحدار مُستواه. كذلك قد يحزن المرءُ حين تتراجع مكانة وطنه؛ لا يحزن من الوطن نفسه بل يحزن على ما وصل إليه أمره.
• • •
«جاءت الحزينة تفرح ما لقيت لها مطرح»، والقولة الشعبية واسعة التداول والانتشار، تعكس سوء الحظ الذى يلازم شخصًا، فما أن تتحسن أموره وتشارف الغيوم على الانقشاع؛ حتى تتلبد السماء من جديد ويقع ما يسوء.