ــ 1 ــ
«تاجر الحكايات» عنوان أحدث إصدار للكاتب والروائى والقاص المبدع حسن عبدالموجود؛ أحد أهم أصوات فن القصة القصيرة فى مصر والعالم العربى الآن. المجموعة الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية، لا تتجاوز 110 صفحات من المتعة الخالصة، نصوص قصيرة للغاية، لكنها مدهشة وممتعة، ومفجرة أيضًا لطوفان من المشاعر والأحاسيس المختلطة شأن كل عمل «أدبى» جميل وأصيل لا بد أن يثير هذه الاستجابات الجمالية الرائعة، على مستوى الشعور وعلى مستوى الإدراك الجمالى لطبيعة هذه النصوص الخاصة جدا. يطلق عليها مبدعها «أقاصيص» محددًا من البداية قصدية الشكل «القصير جدًا»، وقد وصل فيها لمستوى من الاحتراف والفن والمتعة كأنها قمة النضج أو قل «هى»!
فكلمة «أقاصيص» الموضوعة على الغلاف تحدِّد الشكل، وتشير إلى أحد مفاتيح التذوق الجمالى أيضًا. حسن هنا يحسم إشكال النوع حسمًا واضحًا، هو يكتب «أقاصيص» محيلًا إلى ما يعرف فى فن القصة القصيرة، بالقصة القصيرة جدًا (أو النصوص المختزلة جدًا) فالنص الواحد منها لا يستغرق أكثر من دقيقة أو دقيقتين على الأكثر لقراءتها كومضة مشعة! إذن فنحن كقراء لهذه الحكايات أمام نصوص (مختزلة جدًا/ قصيرة جدًا/ ومضات مركزة للغاية/.. إلخ) مكتوبة بكثافة ورهافة و«روقان إبداعى» نصوص تنضح بالحياة ونبضها الذى لا يتوقف لحظة، فيها من الأصداء «أصداء»، ومن «السيرة» ظلال وألوان، ومن التأملات الفلسفية ومن الرصد الاجتماعى وفيها صيحة تمرد ورفض أيضًا!
فى هذه المجموعة يخوض حسن عبدالموجود تجربة جديدة تمامًا عن نصوصه السابقة، فيها تجليات حكمة ونضج واتساع رؤية، وتجنب كامل لأى ترسبات أو فورانات من شطحات البدايات، وقلق البحث عن إشكال النوع. الأمر هنا واضح وهادئ وقار، ليس استسلاما ولا كفا عن البحث، لكن التجربة فرضت هذا الشكل بدلالاته والتقاطاته الذكية للإنسانى «اليومى» فى مفارقاته وحزنه الدفين، ورحلة بحثه عن الله، وتشبثه بالأمل مهما كان حصار اليأس والإحباط، وتطلعه إلى المستقبل!
جماع التركيب والبساطة، تحفة من تحف الإفصاح الفنى النادرة التى ينقلها إلى قارئه المسحـور بطقـوس وألوان وإيقاعات العملية السحرية السرية التى هى الكتابة عند حسن عبدالموجود، وعند كل كاتب قصصى بارع ومتمكن من حرفة الكتابة وطرائقها ودروبها، خاصة غير المطروقة ولا المألوفة.
قد يرى بعض قراء هذه المجموعة أنها ربما تكون أقرب إلى «سيرة ذاتية» بدرجة ما، لكنها فى الحقيقة ليست كذلك، إنها نصوص فيها شعاع خيال وأوهام، وسحابات من الذكريات، وإطفاء لجذوة مشاعر أكبر من أن يتحملها الإنسان وحده!
ــ 2 ــ
لا تُقرأ هذه القصص القصيرة (أو النصوص المختزلة جدًا) كغيرها من القصص! أبدًا، فقد بلغت حدًّا من التقطير والتكثيف وفى الوقت ذاته ببساطة متناهية؛ لا تشعر فيها بعناء فى القراءة أو جهد فى التأويل، وإن كانت تنفتح على آفاق لا نهائية من التفسير والتأويل!
الصدق فيها جارح والألم صادق والتعاطف مدهش، والاتصال الوجدانى بين القارئ ونصه كأنقى ما يكون بلا شوائب. أقرأ واحدًا من هذه النصوص بعنوان «ثلاثة أعوام» فتطفر الدموع من عينى، وتتزلزل مشاعرى، وماذا بعد هذا الفيض المكثف الذى يجمع أشتاتًا من مشاعر وتناقضات والتباسات بين أب وابنته فى سن الانتقال والتحول من براءة الطفولة إلى البحث عن الذات والاستقلال وبدائل الآباء والأمهات.
يحشد حسن هذه الألياف والخيوط ويركزها فى بؤرة خطاب موجه إلى الله. فيه الشكوى، وفيه الرجاء، وفيه العفو، وفيه العوض! اسمعوا معى:
«لم أفعل لابنتى شيئًا مؤذيًا. كلُّ ما طلبتُه منها أن تبادلنى بعض الاهتمام. قلت لها: «أنا أبوكِ.. لا يجبْ أن تمضى علاقتُنا من طرف واحد.. إرسال دائم بلا استقبال، أنا أريد أيضًا كلمة تُرضى أبوَّتى أحيانًا». ثارتْ حتى انشرخ صوتُها وخاصمتنى ثلاثة أعوام. أنت يا ربِّى خالق هرمونات البنات، وتفهمُ سنَّ المراهقة، فلا تجعلها تتألم حين تستعيدُ صراخَها فى وجهى، لا تعذِّبها بالذكرى. لا تغْرِقها بالحنين أو الشفقة. لا تحكمْ عليها بالألم، لا توقظْها من النوم فزعة أو هلعة أو خائفة أو باكية، لا تجعلنى كابوسها. وأعد إليَّ حقى. ثلاثة أعوام ضائعة، أرجو منك أن تضيفها إلى عمرى».
يلعب حسن ببراعة (كعادته) على رصد المفارقة الشعورية والباطنية (باطن النفس والروح، وليس الباطنية أصحاب الحشاشين!) بين جمالٍ حى يواجه قبحا فظيعًا، يبحث عن سلمٍ لا يكدره شغب، ونقاء لا يشوبه كدر، وهيهات أن يعثر على ذلك، وإلا ما اضطر إلى إبداع هذه النصوص المدهشة الرائقة الجميلة.
وإذا لم تكن هذه النصوص الرائعة هى «الأدب» الذى نحبه ونعرفه ونتطلع إليه.. فماذا يكون؟