من بين مهام الأدباء أنهم يسجلون لنا أحداث مجتمعاتهم فى الحاضر والماضى، ويحاولون تحليلها لاستنباط الدروس بهدف إصلاح مجتمعاتهم، وإعطائهم نصائح تصحح مساراتهم فى إطار روائى مؤثر، هكذا فعل الروائى الفرنسى ــ رائد الرومانسية ــ فيكتور هوجو (1802 ــ 1885) فى رائعته الخالدة «البؤساء» (1862)، جاءت هذه الرواية لتنقد المؤسسة الأمنية فى مجتمع القرن التاسع عشر التى تميزت بالقسوة والحِديّة.
والرومانسية هى تيار أدبى، جاء ليُحد من توغل العقل المجرد والفكر الملحد اللذين نشرهما فلاسفة التنوير فى القرن الثامن عشر، وأعاد الاهتمام بالنوازع البشرية والمشكلات النفسية، فتعاطف مع الفقراء والضعفاء، وتصالح مع الروحانيات، فرَدّ لرجل الدين دوره الطبيعى المهم فى المجتمع، يعطى المثل الأعلى بالقدوة الحسنة دون تدخله فى السياسة، كما أكد على قيم الحرية والعدالة، وناصر الشباب فى قضاياهم السياسية، وأقرَّ بأن النفس البشرية ضعيفة.
***
تروى لنا «البؤساء» قصة أشهر رجل شرطة فى الأدب، أن «جافير» Javert رجل قاسى الطباع، لم يؤمن إلا بمبدئين: أن الضابط لا يمكن أن يُخطئ، وأن المجرم لا يمكن إصلاحه! هكذا كانت مسيرته مع بطل القصة «جان فالجان» Jean Valjean أو «حامد حمدان» فى الفيلم بالنسخة العربية، ظل هذا الضابط يطارد فالجان الذى سُجن لأنه سرق رغيف خبز يسد به جوع إخوته الصغار، فحُكِم عليه بأربعة أعوام مُدت إلى تسعة عشر عامًا لمناصرته لزملائه فى السجن ضد ظلم وجور «جافير».
عانى فالجان كثيرًا من نظرة المجتمع السلبية، فلم يسمح له أحد بتناول الطعام فى مطعمه، ولا بالمبيت فى فندقه رغم امتلاكه للمال، ولكن تلقفه رجل دين ففتح له الدير وأطعمه وأوَّاهُ، وعندما سرقه وقبضت عليه الشرطة وأحضرته بالمسروقات لرجل الدين نهرهم الأخير على تعاملهم القاسى وأوضح لهم أنه أهداه هذه المقتنيات! وكانت نصيحته الوحيدة لفالجان أن يستخدم أموال هذه الهدايا فى الخير ومساعدة المحتاجين. هذا هو الخطاب الدينى الذى نحتاجه دون خطب ومواعظ أو مؤتمرات تُعقد هنا وهناك فى أفخر القاعات.
كان موقف الكاهن أكبر دافع لتغير سلوك فالجان الذى انتقل إلى بلدة أخرى متنكرًا باسم «مادلين» وأصبح عمدتها بعد أن أقام فيها مصنعًا ومستشفى لمساعدة الفقراء، ولكن الضابط جافير نُقِّل ليعمل مفتشًا للمباحث فى بلدة فالجان! ويشك مفتش المباحث فى شخصية «مادلين» من تصرفاته وشكله، ومن هنا يبدأ الترصد الثانى، ويُبلِّغ عنه إدارة المباحث للقبض عليه لانتحاله شخصية أخرى، إلا أن الإدارة ترسل لجافير خطابًا توبيخى لأنها قبضت على فالجان، ويعترف الضابط لعمدته مادلين بخطئه لاشتباهه فيه، ويُبلِّغه بأن الشرطة قبضت على فالجان وأنه سيُحكم عليه بالسجن فى الغد.
يُسرِع مادلين لإنقاذ المتهم الذى شهد عليه الجميع بأنه فالجان ــ نظرًا للتشابه الكبير فى الشكل بين الاثنين ــ وتُفاجأ المحكمة باعتراف العمدة «مادلين» بتنكره وبأنه جان فالجان الحقيقى، وأن المتهم مظلوم! ويُحكَّم عليه بالسجن من جديد، ويُكلَّف جافير ــ المنتشى بالانتصار ــ بالقبض عليه، إلا أن فالجان كان قد وعد إحدى العاملات فى مصنعه بأن يُعيد إليها ابنتها التى تعيش لدى أسرة أخرى تستغلها، وبالطبع لم يوافق جافير، فيهرب منه وتتستر عليه راهبة فى موقف ثانٍ للتأكيد على دور ممثل الدين الإصلاحى، وينجح فالجان فى الهرب.
***
وتحكى القصة مشهدًا آخر يُبيّن الصراع بين جدٍ وحفيده الذى يشارك جيله من الشباب فى مظاهرات يطالبون بالحريات وبالعدالة الاجتماعية ويرفضون حكم الفرد، ويمسكون بالضابط جافير المُندس فى المظاهرات للتجسس عليهم، ويشرعون بقتله، ولكن يتصادف مشاركة فالجان فى المظاهرات ويخلص الضابط من أيادى الشباب، ويُطلق سراحه! ويُصدم الضابط من التصرف الإنسانى لفالجان الذى عمل على القضاء عليه، فيشعر بأخطائه وبفشل نظريته الأمنية التى لا تصلح لتقويم المجتمعات، ويلقى بنفسه منتحرًا فى نهر السين فى إشارة إلى انتهاء هذا النوع من رجال الشرطة الذى زُجَّ به فى السياسة.
أما عن رجل الشرطة فى مصر فكان على عكس ذلك، نراه مثالًا للشهامة وللرجولة دون تعارض مع دوره فى الحفاظ على أمن وأمان الشعب، نراه فى فيلم «الخطايا» يتفاعل مع الشاب الذى يمر بأزمة نفسية فيساعده بالمال، ويقوم بالدور الذى قام به رجل الدين فى «البؤساء» ويقول له فى حوار راق: «أوعدنى إنك حتخرج من هنا إنسان تانى» ويضيف: «المجتمع ما بيقولش ده ابن مين ولكن أنت مين»، وفى فيلم «حياة أو موت» لم يهدأ لحكمدار القاهرة بال إلا بعد أن نجح بمنع عماد حمدى من تناول الدواء الذى فيه سم قاتل.
هذه صورة لرجل الشرطة فى حضارتين متباينتين وعصرين مختلفين، أما الآن فالصورة قد تبدلت تمامًا، فى الغرب لا يحتاج الأمر للتوضيح، والصورة عندنا لا ننقل منها سوى خبر كاشف ودال على الوضع الحاضر ــ لو أثبتت التحقيقات صحته ــ عن «تورط عشرات الضباط مع عصابة الدكش (للمخدرات)» (الشروق 4 مايو 2016)، أبلغوا عصابة الإجرام عن موعد حملة القبض عليهم فكانوا سببًا فى مذبحة لزملاء لهم قاموا بواجبهم بشرف! فضلًا عن أحداث أخرى بالقتل والتعدى على المواطنين جارٍ التحقيق فيها.
***
لقد قامت ثورة 25 يناير احتجاجًا ورفضًا لممارسات سيئة، اعترف بها جهاز الشرطة، ووعدوا بالإصلاح، فبدأوا باسترجاع شعارهم القديم «الشرطة فى خدمة الشعب» بدلًا من الشعار الهلامى الذى استحدثوه فى عصر الفساد للتمكين من التوريث «الشرطة فى خدمة الوطن»! ولولا الموقف الوطنى لجيشنا العظيم لأصبحنا نعيش فى أحضان التوريث والفساد.
ويبدأ الإصلاح من وجهة نظرنا من كلية الشرطة التى تمنح ليسانس الحقوق مخالفة لكل العالم الذى يمنح بكالوريوس العلوم الشرطية، بالدراسة المتخصصة لتكوين ضابط محترف يتقن كل ما يُفيد شعار «خدمة الشعب».
إننا لا نقصد بما سبق التعميم، فجهاز الشرطة ملىء بالشرفاء الذين يضحون بأنفسهم فى سبيل أمن الوطن والمواطنين، ومنهم الأخ والابن والصديق، فظاهرة الفساد قد طالت كل القطاعات، وأهم مظاهرها أن كل فئة فى المجتمع وضعت على «رأسها ريشة»، لا تريد محاسبة من أحد، ولا تريد الخضوع لمؤسسات رقابية تابعة للدولة، ترفض مؤسسة العدالة ــ على سبيل المثال ــ أى رقابة مالية على ميزانيتها على الرغم بأنها مطالبة بأن تكون قدوة للآخرين فى الشفافية، ويُصرِّح أحد وزرائها السابقين «نحن الأسياد وأنتم العبيد»، ويرفض آخر انتساب ابن عامل النظافة للهيئة القضائية، وهو المنوط بتحقيق العدالة والحفاظ على المواطنة فى المجتمع!
هذه الجزر التى خلَّقها عصر الفساد هى ما جعلت الرئيس يصرح بأننا نعيش فى «شبه الدولة»، لا ترابط بين مؤسساتها ولا خضوع لكل فئاتها لمنظومة الدولة وسيادة القانون! العودة إلى الحق هى السبيل الوحيد لبناء دولة قوية تقيم العدل أساس الاستقرار والأمان.