أعادنى هذا النص إلى ذكرياتٍ عايشتُ فيها مكان الأحداث، الشوارع والمقاهى، وسينما على بابا الشهيرة قبل هدمها، ولكن فى زمن آخر. كنا فى التسعينيات من القرن العشرين، بينما يحكى النص عن سنوات نهاية الستينيات، وفترة السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين.
النص الصادر عن دار إيبييدى بعنوان «بولاق الفرنساوى»، ومؤلفه هو حجاج أدول، الأديب السكندرى الذى يدهشنا دومًا بحصاد ذكرياته الثرى، وقد اختار هذه المرة أن يكتب عن علاقته بمنطقة بولاق أبو العلا، وبشخصياتٍ عجيبة لا تنسى، تكاد تحدثك وتخرج إليك من فرط دقة رسم تفاصيلها، وبراعة سرد مواقفها، المؤلمة والضاحكة على حد سواء، وهو يشرح منذ البداية جغرافيا المكان، ما بين «بولاق ماسبيرو»، وهى المنطقة الواقعة خلف مبنى التليفزيون، ومنطقة «بولاق الفرنساوى»، وهى المنطقة الأقرب لوكالة البلح.
وبين «بولاق ماسبيرو» و«بولاق الفرنساوى»، فاصل واضح هو شارع 26 يوليو (فؤاد سابقًا) الذى يأخذ المارة إلى الزمالك ووسط البلد، ولكنه أيضًا فى قلب بولاق أبو العلا، الحى الشعبى التليد.
عرفت ما يكتب عنه أدول من أماكن بحكم عملى فى مجلة «أكتوبر» بجوار التليفزيون، كان بولاق ماسبيرو، وبولاق الفرنساوى، هما المدينة الخلفية التى نزورها بحثًا عن المطاعم، ومحلات الألبان، أو رغبة فى الجلوس على المقاهى الكثيرة، وعندما وقع زلزال أكتوبر الشهير فى التسعينيات، عاينت كصحفى حاراتها الضيقة، وبيوتها المتهدمة، وشهدت أيضًا عملية هدم سينما «على بابا»، وكثير من المبانى خلف التليفزيون، بسبب تطوير مثلث ماسبيرو، أو لإنشاء محطة مترو الأنفاق.
أفضِّل أكثر أن أقول إن «بولاق الفرنساوى» سيرة مروية، لأن من الواضح أن أدول يسرد ذكريات خصبة من فترة تجنيده، التى استمرت 7 سنوات كاملة، حتى نهاية حرب أكتوبر، ويحكى عن علاقاته مع نماذج إنسانية متفردة فى «بولاق أبو العلا»، كما أنه يشهد على سنوات التحول الاقتصادى والاجتماعى فى سنوات السبعينيات، وعما فعله الانفتاح بالناس وبالبلد، وبشخصيات بولاق.
من الواضح أيضًا أن أدول يعيد بناء الأحداث والشخصيات بلمساتٍ إضافية، وهو حكاء متدفق، شيق السرد، لا تفوته التفصيلات، ولا يتجاهل مواطن السخرية، ويتوقف كثيرًا عن التعبير عند المشاعر النفسية العميقة، يتفهم الطبيعة الإنسانية المتقلبة، ويستوعب معنى الظروف سواء فى الحرب، أو فى الحياة المدنية.
إننا أمام بورتريهات مرسومة فى لوحة واحدة، ألوانها متدرجة من البهرجة إلى القتامة، والزمن هو إطار اللوحة، وهو بدوره إطار ملون يتدرج من الذهبى إلى الأسود.
ليس هناك هذا البناء المحكم الكلاسيكى التقليدى، ولكن يعوض ذلك حيوية بالغة فى الحكى عن الشخصيات الكثيرة، والتى يمكن أن نصنفها إلى شخصيات بولاق الفرنساوى، وشخصيات الجيش، وبين العالمين تقاطعات ولقاءات، بل يمكن القول إن حرب الجبهة، تعادلها فى بولاق جبهات حروب صغيرة ضارية، سواء طلبا للرزق، أو التماسًا للمكانة، أو ترويضًا لحياة صعبة قاسية، والسارد تتقاطع شخصيته بالطبع مع حجاج أدول فى مرحلة الشباب: إسكندرانى من أصل نوبى، يقضى فترة التجنيد فى الخطوط الأمامية على قناة السويس، ويهرب من ظروفه القاسية بصداقات، ستقوده إلى بولاق وعالمها وشخصياتها العجيبة.
ستعرف الشخصيات المتنوعة ــ من البداية حتى النهاية ــ على مدار النص بأكمله، وما بين إحباطات شباب المجندين، وعلى رأسهم السارد ونصار وحسين وغيرهم، وحياة شخصيات بولاق وعلى رأسها عليوة الزوربا، وزهدى العريض، ومحمد الضائع، وحسن زيادة، وغيرهم، يغيِّر الزمن الأحوال والمصائر، ويبدو كما لو أن الحرب قد انحازت لنوعٍ آخر من البشر، فلا الذين دفعوا ضريبة الدم قد جنوا ثمرة تعبهم، ولا الحياة ابتسمت لهم بعد طول معاناة.
ربما تكون شخصية عليوة الزروبا هى الأهم والأكمل فى النص كلها، وهى الشخصية التى تجمع بقية الشخصيات حولها، وحياة عليوة يمكن أن تترجم تغيرات شخصية واجتماعية عاصفة، وتناقضات إنسانية غريبة، فالفتوة المعتزل، وحكاية حبه للإسكندرانية فلّة، وإنجابه منها، ثم تحولات عليوة فى الثمانينيات، كل ذلك يصلح عنوانًا على التقلبات التى مرت بها البلد، ومرت بها منطقة بولاق الفرنساوى.
والمعاناة التى عاصرها نصار، زميل السارد ودليله إلى بولاق، تصلح أيضًا كتعبيرٍ عن جيل بأكمله، ظل مهمشًا دائمًا، رغم أنه الجيل الذى حارب وانتصر، ولكن نصار المريض بالكبد، سيضطر إلى السفر إلى الخليج، ليعمل كنجار مسلح، وستكون معرفة السارد بموت نصار، نهاية للنص كله الذى أهداه أدول إلى محمد فهيم نصار، زميل ورفيق سنوات الحرب السبعة، ويبدو أنه أصل شخصية نصار القوية والمؤثرة، وفكرة إحباط جيل الحرب متكررة ومتواترة فى كتابات وأفلام مصرية كثيرة.
حتى شخصية مثل حسن زيادة، ابن الحى الوسيم المعجبانى والمتعلم، تصلح عنوانًا لسقف طموحات ارتفع إلى السفر إلى أوروبا، والإقامة فى الزمالك، ومحاولة تغيير الواقع، والخروج من دائرةٍ محددة يعيش فيها، مهما كانت الصعاب، ومهما كانت النتائج.
هى ــ إذن ــ استعادة السرد للزمن المفقود الذى لن يعود بكل ما فيه: للملاية اللف، وللأماكن المندثرة، لكوبرى أبو العلا، والمقاهى العتيقة، لجيل الحرب البائس، الذى لا يريد الزواج حتى لا تترمل بنات الناس، وللجيل الذى حارب بضراوة وشجاعة، بقدر ما هرب من الموت بلحظات الأنس والفرفشة، وبرقصة زوربا، أستاذ ترويض الحياة، وفيلسوف اقتناص السعادة من قلب المأساة.
النصّ ــ فى معناه الأعمق ــ تحية للشخصية المصرية عمومًا، فى بساطتها وتلقائيتها، فى جديتها ونزقها، وفى طابعها الفهلوى الموروث، وفى صبرها الخارق، يمكن أن نرى فى الشخصيات المتنوعة فى الرواية وجوه الشخصية المصرية فى كل أحوالها وتناقضاتها. وبين شهداء لا يذكرهم أحد، ضباطًا وجنودًا، وأولاد بلد لا يراهم أحد، مع أنهم فى قلب العاصمة، يصنع هذا النص تأثيره، ويبقى وثيقة على زمن وعصر، بقدر ما هو شهادة على شخصياتٍ لا تنسى.