ربما يكون هذا الكتاب الفريد هو الأول الذى يقتحم منطقة شائكة ومؤلمة، وهى انتحار عدد معتبر من المبدعين، تحت وطأة معاناة قاسية، من وحش شرس يسمى مرض الاكتئاب. يحلّل المؤلف تلك المعاناة الهائلة، فى تقاطعها مع الإبداع، ويحكى عن هؤلاء؛ بداية وتوهجًا ونهاية، بقدر ما يتحدث عن طبيعة هذا المرض.
الكتاب الصادر عن دار ريشة من تأليف د. خالد منتصر، وعنوانه «الذين سافروا إلى النجوم.. يوم انتحار مبدع»، ومفاجأته ليست فقط فى اختيار الموضوع، ولكن أيضًا فى الطريقة السردية الشيّقة التى اختارها د. خالد، حيث تحدث بأصوات فان جوخ، وهيمنجواى، وفيرجينيا وولف، وروبين ويليامز، ومارلين مونرو، ويوكو ميشيما، وألان تورينج، وصلاح جاهين؛ أى بعثهم من جديد، تعبيرًا عن بقائهم فى الذاكرة، ولكى يمنحهم حق التعبير عن معاناتهم، ويرد عنهم سوء الفهم والإدانة، فقد كانوا حقًّا ضحايا مرض مدمّر.
يقدم المؤلف الاكتئاب عبر سير كُتبت مثل قصص قصيرة محكمة، تتضمن أحيانًا معلومات طبية وعلمية، دون أن نشعر بأى تنافر أو انزعاج، وكأننا أمام مزيج بين العلم والفن والقصة والسيرة، أجاد المؤلف سرده، اعتمادًا على قراءة عميقة لحياة كل كاتب أو فنان، بل والاستعانة بكلمات وعبارات للشخص نفسه وضعت فى إطار صوته المتخيّل، فاندمجت معه، مما منح الحكايات حيوية كبيرة، وجعل القصص حميمية وقريبة ومؤثرة.
وقبل أن تدخل إلى عالم هؤلاء الذين سافروا إلى النجوم، والتعبير للفنان جوخ وصفا للموت، يكتب د. أحمد عكاشة مقدمة طبية ممتازة للكتاب عن مرض الاكتئاب القاتل الذى يؤثر على أكثر من 280 مليون شخص فى العالم من جميع الأعمار، والذى يختبر نحو 22% من السكان عرضًا واحدًا من أعراضه، ويوضح د. عكاشة أسباب المرض المتنوعة، سواء وراثية أو لأسبابٍ بيوكيميائية فى المخ، ويشرح أستاذ الطب النفسى الكبير الألم والمعاناة التى يكابدها المريض، مما يدفعه للانتحار، خاصة فى الحالات الحادة من المرض.
د. محمد المخزنجى يقدم أيضا قراءة فنية بارعة كالمعتاد للطريقة التى كتب بها النص، ويتحدث فى مقدمته للكتاب عن اختباره شخصيا للمعاناة بسبب هذا المرض فى مطلع سنوات الشباب، ويقول إن كتاب د. منتصر سيحفزه على نشر اجتهاداته و«خربشاته» ودراساته حول الاكتئاب.
يبدو لى، وقد استمتعت بالحكايات كلها، وعشت فى قلب أفكار وإبداعات ومعاناة أصحابها، أن الكتّاب والفنانين أكثر تأثرا من غيرهم بتقلّب الأحوال والأمزجة، وهم أيضًا الأكثر حساسية وتأملًا واهتمامًا وحلمًا وخيالًا، ولكن الواقع يخذلهم دائمًا، وتظهر مسافة هائلة بين الحقيقة والمثال، لذلك تأتى الصدمة أكبر وأقسى، ويأتى تعبيرهم عما يشعرون به دقيقًا ومبدعًا.
يستأثر فان جوخ فى لوحته الطويلة بتفاصيل مدهشة، وما كتبه د. خالد عنه من أفضل ما قرأت عن حياة هذه الروح المعذبة التى عرفت الفشل على كل المستويات: طُرد كواعظ فى الكنيسة، وفشل فى بيع لوحاته، وفشل فى قصصه العاطفية، ولم يبق له من سند سوى شقيقه «ثيو».
ومع ذلك، فإنه عرف نشاطًا إبداعيا مذهلًا، رسم 800 لوحة، وكتب 800 رسالة، وعرف أيضًا الاضطراب النفسى والأدوية، وبعض هذه الأدوية كانت تصبغ المرئيات عنده باللون الأصفر.
عندما يحكى فان جوخ عن نفسه، يبدو مثل شخصية تراجيدية تعرف مصيرها، وتتجه إليه بكل صفاء واقتناع، ولا ينسى أن يدافع عن الصبى المراهق الذى اتهم بقتله، مؤكدًا أنه وحده (أى فان جوخ) صاحب قرار التخلص من آلامه، أطلق الرصاص من بندقية على بطنه، وسافر إلى النجوم.
هيمنجواى نموذج لمعاناة ورائية، ولمطاردة دائمة من الموت، انتحر والده وشقيقه وشقيقته وابنه، وكان يواجه الموت فى الحروب، وفى الحياة، امتلأ جسده بالعمليات، ودخل المستشفيات للعلاج، وعاش الحياة طولًا وعرضًا وعمقًا، كابد الوساوس والشعور باللا جدوى، وقتل بنفسه ببندقية، ليكسب الموت الجولة الأخيرة.
فيرجينيا وولف التى عانت - كطفلة - من تحرشات أخيها غير الشقيق، عرفت الوحدة القاسية، ولم تستطع أن تعيش حياة مستقرة، حاولت الانتحار لأول مرة بعد وفاة والدها، واختارت أن تموت غرقا مثل إحدى بطلات رواياتها، ورغم محبة زوجها، فإنها لم تجد سبيلًا للخلاص إلا بالغرق.
روبين ويليامز الذى أضحك العالم، كان أسير إصابته بمرض باركنسون، وبالاكتئاب، مُنح موهبة خارقة فى التقليد والسخرية، ولكنه عرف إدمان المخدرات، وشاهد معاناة صديقه الممثل ستيف ريفز مع مرض الشلل الرباعى، طاردت ويليامز الوساوس والشكوك، فقد الشغف والطاقة، تيبّست ملامح وجهه، استخدم سكينًا فى الانتحار، بعد معاناة نفسية هائلة.
مارلين مونرو كانت أسيرة الجسد والشهرة، وصاحبة الطفولة المؤلمة، لا تعرف لها أبا، وأمها حاولت قتلها وهى طفلة، والعالم حوّلها إلى دمية جميلة. وألان تورينج، العالم الفذ الذى فك شفرة النازيين، أجبروه على تعاطى هرمونات أنثوية، بعد أن اكتشفوا مثليته.
وصلاح جاهين الشاعر العظيم، عانى من الاكتئاب، وأثقلته هزيمة 67، واتهامات الكثيريين بخداع الناس فى أغنياته قبل الهزيمة، ولم يسلم من الاتهام بعدم رفض السلام والتطبيع مع إسرائيل، طاقة حياة وإبداع، ومعارك ومواهب متعددة فى شخص واحد، ومعاناة طويلة مع الكآبة، ومع الوزن الزائد.
فى رباعيته الشهيرة التى يقول فيها: «وما فيش حمار بيحاول الانتحار»، تعبير بليغ عن أن الانتحار فعل إنسانى، لا يمارسه إلا شخص وصل إلى ذروة الألم، الذى لا يمكن احتماله.
ربما لا يبدو ميشيما، الروائى والممثل والمخرج اليابانى العظيم، أقرب إلى مرضى الاكتئاب، أكثر من كونه ابن ثقافة الساموراى، وابن القومية اليابانية الراسخة، التى أهينت بقسوة بعد استسلام اليابان، ولكن حكايته أيضًا تنويعة على مواجهة خيار الموت.
يحقق الكتاب أهدافه بجدارة فى شتى الاتجاهات: تحية المبدعين، استنارة بطبيعة مرض خطير، ورد غيبة من كانوا ضحايا ذلك المرض، وتحويل حكايات مؤلمة إلى سرد بديع، وفن رفيع.