• كان بيان المبادرة مختصرا ودقيقا ومحددا «بوقف كل أعمال العنف وكذلك البيانات المحرضة عليه دون قيد أو شرط ومن جانب واحد».
• فقد تلا البيان «محمد أمين» فى إحدى جلسات المحكمة العسكرية التى كان يحاكم فيها، وكان الرجل هو المنفذ الوحيد الذى استطاع قادة الجماعة الإسلامية السجناء أن يعلنوا رأيهم من خلاله.
• فقد حاولوا تمرير مثل النداء لأبنائهم مرات دون جدوى، كان مطلقو البيان يريدون أن يرضوا ضميرهم ويؤدوا واجبهم وليكن ما يكن بعد ذلك.. تنجح التجربة أو تفشل، هم يدركون أن الصلح أصعب من الصدام، وأن السلام أصعب من الحرب.
• لم يتشجع أحد فى وزارة الداخلية، كان الجميع يخشى تكرار مأساة اللواء / عبدالحليم موسى «الوزير الأسبق» الذى قيل إنه عزل من منصبه لأنه قبل وساطة الشعراوى والغزالى والعوا وغيرهم بين الدولة والجماعات الإسلامية، وقيل أشياء أخرى، المهم أنه عزل بعد الإعلان عن هذه الوساطة، فالكل فى مصر وخاصة فى المناصب الحساسة يؤثر السلامة وينتظر التعليمات، الحروب مكاسبها كثيرة للبعض، وقد تجلب امتيازات لكنها دوما تجر الخراب والدمار على من هم أصغر منهم.
• لم يتشجع لهذا النداء إلا لواء حديث العهد بهذه الرتبة ولكنه عريق فى فكره متطور فى أساليبه، شجاع فى الأخذ بالجديد.
• قال هذا اللواء لرؤسائه ومرءوسيه، هذا البيان صادق، سيوقفون دون مقابل، فماذا يضيرنا لو استجبنا لذلك، دعونى أجرب الحوار معهم، إننا جميعا نتعلم المواجهة والحرب، ولا نتعلم الحوار والمصالحة، قالوا له: ستفشل قال: سأنجح بإذن الله، قالوا: إن نجحت فلنا جميعا، وإن فشلت فعليك وحدك، هذا شرطنا.
• وافق على الشرط المجحف، قابلنا وقابلناه، قلنا له: إن لديكم أخطاء ولدينا أخطاء، وسوف نصحح أخطاءنا أولا، وأنتم أحرار فى تصحيح أخطائكم، فستسألون عنها أمام الله، كانت هذه نظرية الشيخ كرم فى حواره، قال علينا إن نفعل الواجب علينا فقط لأننا سنسأل عن ذلك، وغيرنا سيسأل عن أخطائه.
• وافق الرجل، واكتشفنا بعد سنوات أننا كلما صححنا خطأ عندنا صححوا عشرة أخطاء عندهم، وكلما تقدمنا نحوهم شبرا بمصداقية وتجرد تقدموا نحونا أميالا.
• اكتشفنا أن المصداقية والتجرد والتصويب والنقد الذاتى والتصويب من تلقاء النفس يختصر آلاف الخطوات أمامك.
• حينما توقف العنف سيتوقف التعذيب دون طلب أو إلحاح، التعذيب فى مصر والعالم العربى مثل الإدمان، ولكننى رأيت أن وقف العنف والصدام مع الدولة كفيل بوقفه تماما، هو العلاج الأمثل من وجهة نظرى.
• أوقف العنف ستسمع الدعوة ويتلى القرآن ويصدح المؤذن «الله أكبر.. الله أكبر»، كيف يسمع الآذان وأصوات التفجيرات تدوى وأزيز الرصاص يصم الآذان، والآهات والمخاوف تملأ كل دار.
• نجح هؤلاء القادة لأول مرة فى تاريخ الحركة الإسلامية فى حل الجناح العسكرى سلميا وسلم أسلحته وأفراده طواعية رغم أنهم كانوا فى منعة ولا يعرف طريقهم أحد.
• لم يكن اللواء أحمد رأفت غادرا أو قصير النظر ليقتلهم بعد استسلامهم ويصنع مجدا وهميا يضر مشروعه الكبير الذى يعول عليه.
• أدرك الطرفان أن التغيير الحقيقى يكون فى العقل والفكر، بدأت أصعب الخطوات كيف تصوب فكر 12 ألف معتقل ذاقوا العذاب والهوان لسنوات، كيف تصوب فكره وهو يعذب ويهان ويحرم من أبسط حقوقه، وتهدر كرامته الدينية والإنسانية، هناك آلاف المعتقلين لم يطلقوا رصاصة أو طوبة.
• بدأت أكبر موجة فى تاريخ مصر لإعادة الكرامة الإنسانية والدينية للمعتقلين، وبدأت معها المحاضرات واللقاءات الفكرية.
• اكتشف الطرفان مدى الأخطاء التى وقعوا فيها، أحداث عنف لا مبرر لها ولا سند لها، لم ترفع ظلما ولم تحق حقا ولم تفرج كربا ولم تخرج معتقلا، بل حشرت الآلاف من الأبرياء إلى السجون بدعوى توسيع دائرة الاشتباه.
• فى المقابل عشرات الأطفال فى السجون، مئات الرهائن من الآباء والأشقاء والأعمام والأخوال وبعض الأقزام «13 قزما»...الخ، هل هناك دولة قوية تخشى بأس هؤلاء؟.
• الأمن بالكمائن والرشاشات والسجون والتعذيب والتصفية لا يعد أمنا حقيقيا، الأمن الأقوى والأدوم هو الأمن الذاتى الذى ينبع من الإنسان نفسه لصالح وطنه الذى يشعر بالانتماء الحقيقى له حينما يعطيه الكثير.
• أدركت أن فقها عظيما ينبغى أن يعرفه الناس هو «فقه الصلح» كتبت عنه كثيرا، عشت فيه بقلبى وقلمى، شعرت بعظمة الحسن بن على «رمز الصلح العظيم »، أحييت ذكره ما استطعت لذلك سبيلا.
• قلت يوما للواء «أحمد رأفت»: ما الذى حملك على مخاطرة السلام والصلح؟!.
• قال: يوم اغتيل أستاذى ومعلمى اللواء «رءوف خيرت» حملت جثمانه بيدى، كان منظره مؤثرا لكل تلاميذه، وأنا أكثرهم باعتبارى أقربهم إليه، أدركت يومها أن طريق الدماء والسجون والاعتقالات المتبادل بيننا لا جدوى منه، ولابد من طريق آخر يحل المشكلة من جذورها، وكانت هذه هى البداية لطريق لم نألفه، والحمد لله نجح ودربت عليه ثلاثة أجيال من تلاميذى.
• بعد أن خرج جميع المعتقلين وأصبحت الجماعة الإسلامية على الطريق الصحيح وصار لها شأن بعد ثورة 25 يناير استقلت منها فى عز مجدها وأبيت أن أفعل ذلك فى وقت ضعفها وسجنها.
• كنت أوقن تماما أن الداعية والمفكر لا يصح أن يكون تابعا لأحد، لا تنظيم ولا حزب ولا حكومة ولا ذى سلطان، أن يراقب ربه سبحانه وأن يرضى ضميره، آمنت بأن الفكرة أقوى من التنظيم ومن الحكومة، عباس العقاد ذكره حى، والتنظيمات والوزراء فى الحكومات لا يذكرهم أحد.
• لم يأخذ اللواء أحمد رأفت شيئا من الدنيا، مات بذبحة صدرية حينما تنكر له رؤساءه وحرموه من أبسط حقوقه، ولكن المحنة تحولت فى حقه إلى منحة، حيث ختم حياته بالخير وعصمه الله من سجون ما بعد 25 يناير.
• هكذا ارتاح صناع المبادرة، فقد شاءت الأقدار أن تلزمهم إلزاما بإكمال مسيرتهم التى بدأوها لحقن الدماء لوجه الله.
• رحم الله اللواء أحمد رأفت الذى قدم منظومة من الخير والفرج والإحسان يصعب تكرارها، سلام على صناع السلام، سلام على حاقنى الدماء، سلام على الذين يبيعون جاههم لتفريج كربات الناس.