فقدت العسكرية المصرية فى يوم واحد اثنين من كبار القادة العسكريين المصريين وهما الفريق عبدالمنعم خليل والفريق عبدرب النبى حافظ رئيس أركان حرب الجيش فى أوائل الثمانينيات والثانى شهد لحظة النصر والعبور وكذلك لحظة جنى الثمار برفع العلم المصرى فوق العريش بعد انسحاب إسرائيل من سيناء ليرى من خلال اللحظة الأولى لفرحة العبور والنصر وإزالة آثار هزيمة 5 يونيه وانكسار الجيش الإسرائيلى ومقتل 300 من أبرز قادة وجنود شارون وإصابة ألف وأسر العشرات منهم وهم صفوة الجيش الإسرائيلى.
كان لهذه اللحظات طعم خاص عند هؤلاء الأبطال وخاصة أن فرقة شارون هى التى قتلت مئات الأسرى المصريين بعد نكسة 5 يونيه، اللحظة الأولى عاشها العميد عبدرب النبى كأفضل قائد لأفضل تشكيل مصرى هو الفرقة 16 مشاة، والتى حصلت على هذه الميدالية الفريدة، أما اللحظة الثانية فقد شهدها الفريق عبدرب النبى كرئيس للأركان على قمة الهرم العسكرى المصرى وهو يرى عودة سيناء إلى أحضان مصر والفرحة العارمة بارتفاع علم مصر الخالد على ربوعها بعد أن دفعت مصر والوطن العربى ضريبة غالية من أجل هذا التحرير.
لم يكن الفريق عبدرب النبى قائدا عاديا طوال حياته، فقد خدم معه بعض أقاربى حينما كان قائدا للواء 118 مشاة ميكانيكى وكانوا يقولون إنه كان أصغر قائد لواء فى تاريخ العسكرية المصرية، وكان محبوبا من الجميع بداية من الجندى وحتى أكبر ضباطه، وكان يجمع بين عدة أمور لم تجتمع إلا للقليل منها الحزم مع الرفق والحب والعلم الواسع، وكان فى معظم الأيام يجمع مرؤسيه ويشرح لهم وكان واسع المعرفة فى علوم كثيرة.
وكان يفسر المعجزة التى حدثت فى نصر أكتوبر أنها حدثت نتيجة الإخلاص والتفانى الكبير الذى كان أثرا من آثار المحبة التى ربطت بين الجميع قادة وجنودا، وكانت له كلمة أثيرة أراها مفتاح النجاح لأى قائد حكيم «بالقانون تستطيع أن تحصل على الواجب وبالحب تستطيع أن تحصل على المستحيل».
المعجزات البشرية لا تحدث إلا من الحب العميق والإخلاص اللانهائى وهذا ما حدث فى نصر أكتوبر، تلاحم عجيب غير مسبوق، مصر كلها لم تسجل فيها جريمة واحدة خلال أيام الحرب، كل الجيش كان يتوق للشهادة ويتسابق إليها، حاولت قوات شارون بكل عتادها وبكل أسلحتها الأمريكية الحديثة التى جاءتها عبر الجسر الجوى أن تزحزح مواقع الفرقة 16 مشاة التى كان يقودها الفريق عبدرب النبى حافظ دون جدوى، قصف جوى متواصل، قصف مدفعى لا ينقطع هجمات مدرعة، ومظلليين، وخاصة على الكتيبة 16 مشاة التى كان يقودها المقدم حسين طنطاوى «المشير رحمه الله» دون أن يتزحزح هؤلاء الأبطال، كانت أسوأ ليلة مرت بشارون وفرقته.
ومن غريب الأقدار أن يموت فى نفس اليوم قائده أثناء نصر أكتوبر الفريق د/عبدالمنعم خليل الذى انتدب لقيادة الجيش الثانى بعد يوم 16 أكتوبر بعد أن أصيب اللواء سعد مأمون بأزمة قلبية بعد خسارة الدبابات المصرية فى تطوير الهجوم، الذى لم يكن موفقا فى توقيته وطريقته وكان مجاملة لسوريا ــ لم تكن فى محلها ــ لتخفيف الضغط الإسرائيلى عليها، كان عبدالمنعم خليل قائدا للجيش الثانى وعبدرب النبى حافظ قائدا للفرقة 16 فى نفس الجيش.
كلاهما يعد من الآباء الروحيين للعسكرية المصرية، وكلاهما تخرج من الكلية الحربية فى العهد الملكى، وحضر كل حروب مصر وشارك فيها، والفريق عبدالمنعم خليل حضر حرب فلسطين زيادة عن عبدرب النبى، كلاهما جمع بين المدرسة الغربية العسكرية ممثلة فى المدرسة العسكرية البريطانية العريقة فكلاهما درس فى بريطانيا وكان من البارزين، ومعها المدرسة العسكرية الشرقية ممثلة فى المدرسة السوفيتية وكلاهما كان ضليعا فى المدرستين، وكلاهما مزج بين حسنات المدرستين ليخرج نموذجا عسكريا مصريا فريدا قادا به نصر أكتوبر وانتصرا بإمكانيات الأسلحة السوفيتية القديمة على الأسلحة الأمريكية الحديثة، ولو كان مع الجندى المصرى نفس الأسلحة والطائرات الغربية التى كانت تملكها إسرائيل لهزمناهم هزيمة ساحقة، فقد كان فرق التكنولوجيا كبيرا ولكن علم وعزائم رجال مثل عبدالمنعم خليل، وعبدرب النبى حافظ استطاع تجاوز هذه العقبات الصعبة.
ويعد الفريق عبدالمنعم خليل من الضباط المصريين القلائل الذين خاضوا معركتى العلمين الأولى والثانية وتعلم من مونتجمرى وغيره الكثير، وهى أكبر المعارك العالمية وهو يقترب فى ذلك من المؤرخ العسكرى المصرى العظيم اللواء / حسن البدرى الذى يعتبره البعض أبرز مستشارى عبدالناصر بعد نكسة 5 يونيه.
ويعد هذا الجيل العظيم من العسكريين المصريين من أزهد الأجيال فقد عاش حياته كلها فى صعوبات وحروب وتضحيات متواصلة لا يكاد يهنأ بعيش فمن حرب 56، و48، وحرب اليمن، لنكسة يونيو، لانتصار أكتوبر، مرورا بتكوين وتدريب الجيوش العربية ومنها جيوش اليمن والجزائر وليبيا والعراق وغيرها.
الرئيس مبارك قال للفريق عبدرب النبى بعد انتهاء خدمته كرئيس للأركان: عليك أن تختار أى موقع مدنى لأعينك فيه تكريما لك فقال: لا أريد أى شىء ولا أى منصب، يكفينى شرف أن أختم حياتى كرئيس للأركان، وهكذا فعل الكثيرون ومنهم الفريق عبدالمنعم خليل الذى آثر الزهد فى الدنيا والانقطاع للعلم والعبادة.
وحسنا أن الدولة كرمتهما تكريما عظيما فى السنوات الأخيرة، وقابلهما الرئيس السيسى أحسن لقاء وترحاب وثناء وكرم قائده الأسبق المحبوب عبدرب النبى حافظ بأن أطلق اسمه على الدفعة 150 من الكلية الحربية، ومنح الفريق عبدالمنعم خليل الدكتوراة الفخرية من أكاديمية ناصر العسكرية، فضلا عن الجنازة العسكرية المهيبة التى تليق بقائدين عظيمين من قادة نصر أكتوبر.
وقد كان من حسن حظ القائدين أن أطال الله فى عمرهما فتوفى أحدهما بعد أن جاوز المائة والآخر بعد التسعين وكلاهما كان فى قمة تألقه العقلى والذهنى، وبذلك لن يكون من قادة أكتوبر على قيد الحياة سوى من كان وقت الحرب برتبة المقدم أو الرائد فما تحت.
هذا الجيل الذهبى يندر أن يتكرر بعطاءاته وسياقات بذله وتضحياته مع شرفه وعزة نفسه، سلام على الأبطال ولا نامت أعين الجبناء.