جمعنا فى منزله بحى الدقى الأستاذ المكلف بتدريس مادة العلاقات الدولية. كنا ثلاثة طلاب تحت العشرين فى قسم يضم حوالى ثلاثين غالبيتهم فى الثلاثين أو أكثر. شربنا الشاى وأكلنا نصيبنا من الحلوى المرافقة له وأعربنا عن استعدادنا لتلقى ما دعينا لسماعه. كان صريحا. قال إنه يريد أن يطمئن إلى أننا نعرف ما نحن بصدد تعلمه وعلاقته بخياراتنا فى المستقبل. قال أيضا إن كليتنا، كغيرها من كليات الجامعة، تعد كلا منا لصنعة يمارسها بعد تخرجه. تعده ليكون محاسبا أو صانع إعلانات ودعاية أو موظفا فى قسم المستخدمين بشركة أو مصلحة حكومية أو متدربا فى بنك أو فى شركة توظيف أموال، وهى بالتأكيد لا تعد الطالب فى قسم العلوم السياسية ليعمل فى السياسة فالسياسة ليست «صنعة» ولا يجب أن تكون. تقدم الكلية لصغار السن من طلبة العلوم السياسية الراغبين فى ممارسة الدبلوماسية أو تدريس السياسة النزر اليسير مما يمكن أن يساعدهم فى تحقيق الهدف مع التأكيد عليهم بأن الطريق إلى أى منهما طويل ومكلف وشاق.
• • •
بقيت إرشادات هذا الأستاذ ثم الصديق عالقة بذهنى خلال مختلف مراحل الدراسات العليا والإقامة الميدانية كدبلوماسى فى دول متقدمة وغير متقدمة وخلال عملى فى مهن أخرى ليست بعيدة عن السياسة كالصحافة والبحث العلمى. سمحت لى ظروف إقامتى فى أمريكا اللاتينية أن أكون قريبا من السياسة ومراقبا لها لمدد متفاوتة، وأقصد تحديدا أن أكون قريبا من شبكة علاقات القوة داخل المجتمع. كنت جارا فى إحدى العواصم اللاتينية لشخصية عسكرية لعبت دورا فى تغيير نظام الحكم ساهم حسن حظى أن هذا القائد الكبير ارتاح لحسن اطلاعى واطمأن لصفة من صفاتى فراح يشاطرنى حقيقة ومغزى الدور الذى تقوم به المؤسسة التى ينتمى لها فى إدارة «السياسة» وتوجيه مساراتها وفى النهاية تولى المسئولية كاملة. تصادف أيضا أن أحد أصهارى من الشباب كان عضوا ناشطا فى العمل النقابى فى دولة اشتهرت بالدور البارز الذى قامت به المؤسسات النقابية فى توجيه الدولة نحو مستقبل مختلف عن مستقبل بقية دول القارة. كانت تجربة مثيرة حين اجتمع فى شقتى بشارع ليبرتادور بالعاصمة الأرجنتينية القائد العسكرى المرموق والناشط النقابى. خرجت من هذا الاجتماع بفهم عميق لحقيقة اللعبة السياسية فى دولة لم تمد الديموقراطية الليبرالية فيها جذورها بالقدر اللازم.
• • •
تشهد هذه الفترة من حياتى كدبلوماسى البداية الحقيقية والواقعية لانغماس طويل الأمد فى محاولات وجهود متواصلة نحو فهم عميق لمعنى السياسة وتطبيقاتها وأمراضها، الخبيث منها والحميد. ساقتنى بعض هذه المحاولات إلى الاقتناع بحاجتى للعودة إلى مقاعد الدراسة. عدت بالفعل ولكن إلى جامعة متميزة تختار فيها ما تريد وما ينقصك وليس ما تفرضه عليك المناهج وسياسات مجالس الأوصياء واختيارات المعلمين.
• • •
هناك ازدادت قدرتى على فهم مغزى ما كان يحدث أمامى فى الصين خلال العام الذى قضيت فى بكين. فهمت أيضا ما لم أفهم وأنا بعيد عنها. فهمت مثلا الدوافع الحقيقية للثورة الثقافية التى أشعلها الرئيس ماو. كان الظن أنها لم تخرج عن كونها تجربة شديدة العنف لتصفية حسابات قديمة مع رفاق الثورة والمسيرة الطويلة. أيضا ذهب الظن بى وأنا بعيد عن الصين أن الحزب تراخت قبضته نتيجة ضغوط متتالية وعقوبات قاسية من جانب الاتحاد السوفييتى فجاء قرار الرئيس ماو بإشعال ثورة الشباب للقضاء على العناصر التى فسدت والتى تعبت والتى تاهت. لكن بعد الدرس والتحصيل والتعمق فى الفهم أدركت أننى قصرت عندما لم أذهب إلى المدى اللازم والضرورى نحو ضرورة الربط بين الثقافى والبيروقراطى والسياسى فى تاريخ الصين الإمبراطورى إذا شئت، عن حق، فهم السلوك السياسى الصينى. لم أدرك وقتها إلى الدرجة الكافية الدور الذى استمر يلعبه تقديس الأصغر للأكبر فى العائلة كما فى الشارع كما فى المجتمع حتى صار تقديس كبار السن العقبة الكئود على طريق صعود مكانة الحزب وهو أيضا التهديد الدائم للتراتيب داخل منظومة القيادة السياسية.
• • •
عشت فى الصين منبهرا بالحزب وقبلها عشت فى الهند منبهرا أيضا بالديمقراطية وإيمان الناس بها. خرجت منها مقتنعا بأن الهند مجتمع سياسى غير قابل لديكتاتورية الحزب الواحد أو المؤسسة العسكرية لأنه مجتمع متعدد الأديان والطوائف والأجناس والطبقات. أدركت فيما بعد خطأ ما قدرت وأدركت. أثبتت أيام الشرق الأوسط أن مجتمعا تعدديا فى العراق أنجب حكما شديد القمع والسلطوية وكذلك فى السودان وسوريا حيث لم تشكل التعددية عائقا أمام التسلط كما فعلت فى الهند. الآن يتحدثون عن هند جديدة جاهزة لدكتاتورية شديدة التطرف والتسلط.
• • •
انتفعت بالفهم الذى أحسنت استيعابه وتعمقت فيه خلال إقامتى بأمريكا اللاتينية، انتفعت به مدة سنوات الدراسات العليا. ثم إنه كان ضروريا عندما عدت للقاهرة للعمل فى موقع يطل عن كثب على هذه الشبكة العميقة، شبكة علاقات القوة فى المجتمع المصرى. كانت مرحلة وجودى فى الأهرام أيضا نموذجية فشبكة القوة منشغلة بالإعداد لحرب أكتوبر وكيسنجر يسعى فى الخفاء لفهم دوافع وإمكانات أطراف الصراع فى المنطقة ويبذل جهدا حثيثا ليفرض نفسه، لاعبا أساسيا، فى لعبة السياسة الداخلية فى مصر.
عدت للقاهرة ولموقع لم أخطط له. كنا نعمل فريقا متكاملا ليل نهار فى ظروف داخلية شديدة التوتر لإنشاء مركز للدراسات السياسية والاستراتيجية وترويجه عالميا. كان هدفا للمركز غير معلن حتى لمعظم أعضائه صنع موقع نفوذ إضافى لمؤسسة الأهرام وقائدها داخل شبكة علاقات القوة المصرية. كان أيضا من أهدافه التصدى لعملية إعادة ترتيب أولويات السياسة الخارجية المصرية وهى العملية التى أطلقتها السلطة الحاكمة بمساعدة مباشرة من قوى وتنظيمات اليمين الدينى المتطرف. كانت النتيجة أن تقرر عزل هيكل باعتباره قائدا للأهرام أحد أهم أطراف شبكة القوة السياسية وباعتباره مؤسسا لمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية الذى راح مع الوقت واتساع دائرة علاقاته الخارجية يحتل سمعة العدو المتربص بمؤسسة الرئاسة.
بعد سنة أو أقل صدرت التوجيهات بتقليص أنشطة مركز الدراسات وحله إن أمكن أو حرفه عن طريق البحث فى السياسة، وأشهد أنه لولا وجود أحمد بهاء الدين بالأهرام فى ذلك الحين لصفى المركز وفقدت مصر صوتا رشيدا.