الحديد والصلب.. بين الموت والنشور - مدحت نافع - بوابة الشروق
الثلاثاء 26 أغسطس 2025 5:51 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع النجاح لنظام الدوري المصري الجديد في ظل مشاركة 21 فريقًا؟

الحديد والصلب.. بين الموت والنشور

نشر فى : الإثنين 25 أغسطس 2025 - 6:40 م | آخر تحديث : الإثنين 25 أغسطس 2025 - 6:40 م

منذ اللحظة الأولى لإعلان قرار تصفية شركة الحديد والصلب المصرية فى مطلع عام 2021 بدا أن النقاش حول تلك المؤسسة لا يخص صناعة بعينها بقدر ما يعكس طبيعة العلاقة المعقدة بين الدولة والصناعة الثقيلة والاستثمار طويل الأجل فى مصر. وقد خصصت أربعة مقالات متتابعة آنذاك (خلال الفترة الممتدة من 7 يونيو إلى 5 يوليو عام 2021 فى سلسلة مقالات لجريدة الشروق) لرصد الخلفيات التاريخية والاقتصادية لذلك القرار، ومناقشة الأبعاد الاستراتيجية التى غابت أو غُيبت عن النقاش العام. وكان هدفى أن أثبت أن قرارًا بهذا القدر من الأهمية لا يمكن النظر إليه من زاوية الموازنات المالية قصيرة الأجل وحدها، بل يتجاوزها إلى مستقبل الصناعة الوطنية، ومكانة مصر فى سلاسل القيمة العالمية.


تأسست شركة الحديد والصلب المصرية عام 1954 كأحد رموز المشروع الصناعى للدولة المصرية الحديثة، ولم تكن مجرد مصنع لإنتاج الصلب، بل مشروعًا قوميًا ارتبط ببناء السد العالى ومشروعات البنية التحتية الكبرى، وتكونت حولها أجيال من الخبرات والمهارات. وقد تعرضت مثلها مثل غيرها من شركات القطاع العام لدفق هائل من التحديات خلال عقود تخاذل فيها الاستثمار الحكومى عن الصيانة والتحديث، فتقادمت الأفران وارتفعت تكاليف الإنتاج وتركمت الديون، ولم تعد الشركة قادرة على المنافسة بالسوق المحلية أو العالمية. لكن تلك الحقيقة لم تكن لتعنى بالضرورة أن الحل الوحيد هو التصفية القانونية بصورتها التقليدية، إذ إن وقف النزيف كان من الممكن أن يتم بقرارات تشغيلية بسيطة. فقد شهد العالم نماذج عديدة لشركات وطنية كبرى تعرضت لأزمات مشابهة، غير أن الإصلاح وإعادة الهيكلة كانا هما المسار الطبيعى، لا التخلص من الأصول ولا التفريط فى الكفاءات.


فى شهادتى المشار إليها (أدعو القرّاء لمطالعتها من أرشيف الشروق الإلكترونى) طرحت سؤالاً جوهريًا: هل كانت الشركة عبئًا لا يحتمل على الاقتصاد القومى، أم أنها ضحية لسياسات غير رشيدة كان يمكن تداركها؟ الواقع أن الخسائر المتراكمة لم تكن نتيجة طبيعية لفساد جوهرى فى الفكرة أو لغياب الجدوى الاقتصادية من صناعة الصلب فى مصر، وإنما تعبير عن خلل فى الإدارة وسوء تخصيص للاستثمارات، وغياب التنسيق بين حلقات سلسلة الإنتاج من التعدين إلى التصنيع. وأوضحت أن خام الحديد المصرى فى الواحات البحرية يظل أحد أهم المدخلات الطبيعية التى كان ينبغى استغلالها بكفاءة، لا أن تتحول إلى ذريعة للتصفية بزعم تدنّى الجودة أو ارتفاع تكاليف التركيز.


كما بيّنت حينها أن النظر إلى نتائج الشركة من خلال القوائم المالية فقط يفتقر إلى الرؤية الاستراتيجية. فالصناعات الثقيلة لا تقاس بعوائدها المباشرة فى عام أو عامين، بل بقدرتها على توفير الأمن الصناعى للدولة، وإمداد الصناعات الأخرى بالمواد الأساسية، وخفض فاتورة الواردات، وتحقيق قيمة مضافة وطنية. وعليه، فإن تقدير قيمة الشركة لا يقتصر على حساب الفرق بين الإيرادات والمصروفات، بل يتضمن ما تحققه من استقلال استراتيجى ومن فرص تشغيل مباشرة وغير مباشرة لعشرات الآلاف من العاملين.
ثم تناولت فى تلك المقالات الأبعاد الاجتماعية والسياسية للقرار. فشركة الحديد والصلب ليست مجرد مصنع، بل مجتمعا عمّاليا متكاملا، نشأ فى حلوان وتوارثته أجيال من الأسر، وأوضحت أن أية خطة إصلاح أو إعادة هيكلة كان يمكن أن تتضمن مشاركة القطاع الخاص المحلى والأجنبى، أو إدخال التكنولوجيا الحديثة عبر شراكات استراتيجية، أو فصل النشاطات غير الأساسية عن النشاط الرئيس، بما يخفف من الأعباء ويحافظ على القلب الصناعى للشركة.
• • •
أما مسارات الإصلاح التى تبنيتها كرئيس سابق للشركة القابضة للصناعات المعدنية فقد كانت تدور حول:
المسار المالى والإدارى: تسوية الديون وترشيد الإنفاق
• تسوية الديون: تمت مقايضة مليارات الجنيهات من الديون المستحقة للكهرباء والبترول وبنك مصر بأراضٍ غير مستغلة مملوكة للشركة، بعد إعادة تقييمها وتغيير نشاطها لزيادة قيمتها. كانت تسوية بنك مصر (بقيمة 70 مليون دولار) بمثابة طوق نجاة منع الحجز على الشركة.
• ترشيد الاستهلاك: خفض استهلاك الغاز والكهرباء بنسبة وصلت إلى 50%، والسداد المنتظم للفواتير الجارية.
• بيع الأصول غير المستغلة: أهمها بيع رصيد الخردة المتراكم (بآلاف الأطنان) فى أكبر مزايدة شفافة بسعر بورصة المعادن العالمية، لشركة «حديد المصريين».
المسار الفنى: محاولة إحياء القلب النابض
بمشورة شركة «تاتا ستيل» العالمية، تم وضع خطة على ثلاث مراحل تبدأ بـ«الاستقرار المبدئى» لتشغيل الأفران بأقل تكلفة. لكن الخطة اصطدمت بواقع مرير: استمرار التوقفات الفنية، والاستهلاك المرتفع للكوك، وعدم دقة البيانات. وأخفقت مناقصة التطوير (رقم 16607 لسنة 2017) التى قدرت تكلفتها بمليارات الجنيهات، بسبب عدم وجود ضمانات أو ممولين.
مسار تركيز الخامات
تمتلك الشركة رصيدًا مهدرًا من خامات الحديد فى مناجم الواحات البحرية باحتياطيات ضخمة، لكن تركيز خامها ضعيف (حوالى 48 ــ 50% على الأكثر). كان الحل هو إنشاء مصانع لتركيز الخام وتكويره (تحويله إلى كريات عالية الجودة) لبيعه عالميًا أو استخدامه محليًا. بعد معاينة تكنولوجيا الفصل المغناطيسى الجاف فى أوكرانيا (المناسبة لنقص المياه فى مصر)، تم التوقيع على اتفاقية مع شركة أوكرانية يونيو 2020 لإنشاء مصنع تجريبى ثم مصانع كاملة بتكلفة 100 مليون دولار.
على الرغم من العقبات، حققت خطة الإنقاذ إنجازات ملموسة:
• خفض الخسائر السنوية بنسبة 54 ــ 55% لأول مرة فى تاريخ الشركة الحديث.
• تسوية ديون بقيمة مليارات الجنيهات دون الاعتماد على الخزانة العامة.
• تحسين الوضع المالى والإدارى وشفافية التعامل مع الشركات الشقيقة.
• وضع أساس استراتيجى لاستغلال المناجم عبر الشراكات الدولية.
وقد ختمت سلسلة المقالات مؤكدًا على أن التصفية قرار إدارى قابل للمراجعة وليس قدرًا محتومًا. قلت آنذاك إن عدول الحكومة عن القرار سيكون أكثر يسرًا من الاستمرار فى تنفيذه، لأن التصفية فى حد ذاتها عملية معقدة ومكلفة، وتتضمن بيع أصول ذات قيمة تاريخية واقتصادية يصعب تعويضها، بينما كان يمكن بتكلفة أقل وأفق أوسع إعادة تشغيل الأفران أو تحديثها جزئيًا لتبقى الشركة على قيد الحياة إلى أن يتحدد مصيرها فى إطار خطة شاملة لصناعة الحديد والصلب فى مصر.
• • •
اليوم وبعد مرور أكثر من أربع سنوات على تلك المقالات، يعود النقاش مجددًا حول الشركة على نحو يثبت أن ما طُرح آنذاك لم يكن محض اجتهاد رمزى، بل قراءة واقعية لطبيعة اتخاذ القرارات الاقتصادية الكبرى فى مصر. وعليه، فإن ما نراه من إعادة طرح ملف الشركة، وما يخلقه اليوم من ارتباك فى المفاهيم والنوايا بل وحركة الأسواق واهتزاز فى تقييم سهم الشركة تحت التصفية، وفى تعاقدات مع القائمين على أعمال التصفية بشكل قانونى.. ينسجم تمامًا مع المخاوف التى أثرتها حينها، من دورات البعث التى تمر بها شركات الدولة بعد رحيل الوزراء، تمامًا كما يحدث مع أنظمة الثانوية العامة والابتدائية فى وزارة التربية والتعليم!
الصناعة اليوم أشد تنافسية، والتكنولوجيا أكثر تقدمًا، والأسواق أكثر انفتاحًا، وتدخّل لدولة كمصّنع بات أبعد احتمالاً فى ظل حيز مالى ضعيف، وحتمية التخارج المعجّل لتحقيق الإصلاح الهيكلى. وبالتالى فإن أية محاولة لاستعادة أى نشاط لا بد أن تكون جزءًا من رؤية صناعية وطنية متكاملة، تُحدد موقع مصر فى خريطة صناعة الصلب العالمية، وتضع فى الاعتبار حجم الاستثمارات المطلوبة، ونوعية الشراكات الممكنة، وضرورة تخارج الدولة، وأدوات التمويل المستدام، وتكاليف العشوائية فى اتخاذ القرارات.
لقد كان جوهر اعتراضى على التصفية منذ سنوات يكمن فى آلية التخارج، وحيثيات التخلّص من المشروع، وعبثية التسرّع.. فالدولة لا يمكنها أن تتعامل مع شركاتها الكبرى بمنطق التاجر الذى يغلق متجرًا خاسرًا. فالمسألة هنا لا تتعلق بميزان الربح والخسارة فقط، بل بوزن الدولة الصناعى، وبمستقبل جيل كامل من المهندسين والفنيين والعمال الذين تراكمت خبراتهم على مدار عقود. وكما قلت آنذاك، فإن إهدار تلك الخبرة يُعد خسارة لا تقل فداحة عن خسارة الأصول المادية، لأن الخبرة البشرية لا تُشترى ولا تُعوّض بسهولة. وإذا كانت بعض الأصوات قد رأت أن بقاء الشركة عبء، فإن المنطق ذاته يمكن أن يقود إلى التخلى عن أى قطاع عام يواجه صعوبات، وهو ما يتنافى مع أبسط قواعد التنمية الاقتصادية التى تستند إلى تدخل الدولة المشروط لحماية بعض الصناعات الاستراتيجية بالشراكة مع القطاع الخاص الوطنى طبعًا.
إن قصة الحديد والصلب المصرية تظل درسًا بليغًا فى أن القرارات الكبرى تحتاج دومًا إلى بُعد نظر وإلى تقدير لأبعادها وتداعياتها الاستراتيجية، لا أن تُختزل فى أرقام الخسائر أو المكاسب قصيرة الأجل، ولا أن تتخذ بحيثيات ضعيفة مربكة.
كاتب ومحلل اقتصادى

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات