فى زيارته الأخيرة لإسرائيل (17/10/2023)، كشف الرئيس الأمريكى بصورة سيميائية (cineــsemiotic) عن شكل العلاقة التى تربط الولايات المتحدة بإسرائيل؛ ظهر الرئيس بايدن على شاشات التلفاز عند استقباله وهو يضع ذراعه اليسرى على كتِفَى رئيس وزرائها نتنياهو، وضمه للناحية اليسرى (موقع القلب)، تماما كما يحتضن الأب ابنه، هى نفس الطريقة التى استقبل بها بايدن الرئيس الأوكرانى زيلينسكى فى أول زيارة له للولايات المتحدة بعد اشتعال الحرب ضد روسيا، ولكن بايدن مع زيلينسكى نراه يضمه إليه من الناحية اليمنى!.
تعكس الصورتان الدعم المعنوى المطلق للمسئولين، وفى نفس الوقت، تكشف بشكل واضح لا لبس فيه «ازدواجية المعايير» للرئيس الأمريكى وللنظام السياسى لبلاده؛ حيث إن زيلينسكى رئيس دولة مُعتدى عليها، احتلت جارتها روسيا جزءا من أراضى بلاده، بينما نتنياهو مُعتدٍ على شعب أعزل؛ احتلت دولته أراضى فلسطين واغتصبتها، وشرَّدت أهلها، وحاصرت جزءا منها (غزة) برًّا وبحرًا وجوًا لمدة ثمانية عشر عاما، إلا أن الاثنين ــ نتنياهو وزيلينسكى ــ وعلى الرغم من تعارض وضعهما (الأول مُعتدٍ والثانى مُعتدَى عليه) نالا من الرئيس الأمريكى نفس العناية والرعاية المعنوية، وبالطبع المادية من عتاد وأموال ومواقف سياسية داعمة فى الهيئات الدولية!.
وتوضح الصورتان وضع كل منهما بالنسبة للرئيس الأمريكى الذى يضم نتنياهو ناحية قلبه، فتبدو أوكرانيا ليست كإسرائيل بالنسبة للولايات المتحدة، هذا من ناحية لغة الجسد (body language)، أما من ناحية اللغة الطبيعية، فقد عبّر الرئيس بايدن بقوله: «لو لم تكن هناك إسرائيل لكان على أمريكا خلق إسرائيل لحماية مصالحها»، ويضيف: «لا ينبغى أن تكون يهوديا حتى تكون صهيونيا»، وقول ريشى سوناك رئيس وزراء بريطانيا: «لا يمكن معاملة الفلسطينى مثل الإسرائيلى»، تصريحات تؤكد على العلاقة العضوية الخاصة بين الولايات المتحدة والغرب من جانب وبين إسرائيل من الجانب الآخر!.
• • •
من المعلوم أن إسرائيل أنشأتها بريطانيا عندما كانت عُظمى بوعد من رئيس وزرائها بلفور (1917)، فكان وعدا مِمَّن لا يملك لمن لا يستحق، وصارت هذه العلاقة العضوية كعلاقة بين أب وابنه ــ رغم أن الابن غير شرعى ــ إلا أن مصالح الولايات المتحدة والغرب التى تحميها إسرائيل ــ كما سبق الإشارة ــ استغلتها إسرائيل لابتزازهما، والتى نجحت أيضا ــ بعد محرقة اليهود فى ألمانيا (الهولوكست) ــ فى تكوين عقدة نفسية للغرب كله، فأصبحت إسرائيل تفرض شروطها عليهم، ومن هنا صارت إسرائيل «الطفل المدلل» الذى يَطلُب فيُلبّى، ولا يُرَد لها أى طلب!.
وبالبحث عن مواصفات الطفل المدلل الذى غالبًا ما يكون وحيدًا أو جاء إلى الدنيا بصعوبة أو بطريقة غير طبيعية، نجدها تنطبق بالحرف الواحد على إسرائيل وتصرفاتها، فأول ما يُميز هذا الطفل أنه لا يقبل شريكا له، ولا يساوم فى متطلّباته ويضعها فى المقدّمة، فهو أنانى بامتياز، ولا يظهر تعاطفا مع الآخرين، كما لا يقبل كلمة «لا» من أحد، ويرفض اتباع القواعد، وإذا لم تُلبَ طلباته أو أُصيب بانكسار تنتابه نوبات غضب جنونية، ولا يهدأ إلا بالانتقام، والسعى لتدمير الآخر، فضلا عن أنه يعتاد مخالفة القواعد العامة، دون معارضة من والديه، ويتسبب ذلك فى أنّه «يأمَن العقاب»، وعليه «يُسىء الأدب» مع الجميع، إذ عندما يعتاد التساهل معه يستطيع مخالفة التعليمات والقواعد ببساطة، وهكذا يصبح طفلا عدوانيا وضعيفا لا يستطيع الاعتماد على نفسه، ويسبب حرجا لوالديه!.
أليست هذه مواصفات إسرائيل؟ فقد نشأت بعملية قيصرية، وبطريقة غير شرعية، جعلتها تشعر بأنها متفردة، فأصبحت مُدللة لا تقبل أى تعاون مع الآخر، فكرها نابع من «الجيتو»، أنانية لا ترَ سوى مصالحها، فهى دولة مارقة لا تلتزم بالقوانين، أُدينت عشرات المرات من المنظمات الدولية، على رأسها الأمم المتحدة والجمعية العامة، وترفض تنفيذ أى قرار أُمَمى، لا تخضع لأى سيطرة من أى ما كان، وإذا أصابتها أى هزيمة انتابتها نوبات غضب عارمة، لا تهدأ إلا بالانتقام المدمر الذى لا يتناسب مع ما أصابها، وتُقيم العالم وتقعده، فتطلب المعونة والدعم من الآخرين، هى فى الحقيقة دولة ضعيفة للغاية تنهار بسرعة البرق، تعتمد على فرض نفسها بالقوة فى محاولة لتحقيق أمنها، ولا تعترف بأن العدل والتعاون والمشاركة مع الآخرين أساس السلم والأمن والأمان الذى ستظل فاقدة له طالما هى مدللة لا تسعى إلا لمصالحها فقط!.
• • •
الأمثلة التى تثبت صحة تحليلنا كثيرة جدا، ولكننا سنكتفى بذكر القليل جدا من بعض الصفات المرضية التى تتمتع بها إسرائيل المدللة:
ــ تكونت بالمذابح والمجازر والعمليات الإرهابية، وأقوى الدلائل على ذلك مذابح دير ياسين وصبرا وشاتيلا.. وما قبلها لتهجير أصحاب الأراضى من أوطانهم من أجل تحقيق التطهير العرقى، وكذلك مجزرة أطفال بحر البقر، ولا تقبل أن يُحاسبها أحد على جرائمها!.
ــ يُلبى العالم الغربى كل طلباتها، فيغمرها بالعطاءات والمنح المالية والأسلحة التى لا يحصل عليها سواها فى سبيل أن تكون من أقوى جيوش العالم، ووصل تسليحها لأن تكون الدولة الوحيدة فى المنطقة التى تمتلك الأسلحة النووية، هكذا تحقق عقدة التفوق على الآخرين!.
ــ فى سابقة لم تحدث فى تاريخ البشرية، تدفع العالم لتَزوير حقائق التاريخ، وقناعات الأديان إرضاء لها، فيُعلن البابا بنديكت السادس عشر، بابا الفاتيكان، رسميا (2012) فى كتاب البابوية «يسوع الناصرى»، عن حياة وتعاليم المسيح، تبرئة اليهود من دم السيد المسيح، ويقول: «إن الكتاب هو رسالة لكل العالم من أجل تأكيد أن اليهود برئة من دم المسيح»! والصورتان التاليتان تُبيّن أن نفس جرائم القتل مازالت تجرى من أيام السيد المسيح عليه السلام فى نفس المكان (فلسطين ــ القدس) وحتى اليوم بأيادى نفس المجرم!.
ــ تختلق معارك غير ضرورية لإثبات ذاتها، فترهب كل من يُعارضها ويكشف حقيقتها بشعار «معاداة السامية»، بينما هم الذين يعادون الإنسانية كلها، ونؤكد أن عداءنا ليس مع الديانة اليهودية، ولكنه مع الحركة السياسية الصهيونية باعتبارها حركة استعمارية وعنصرية بغيضة! وتعتبر عقدة التفوق أسوأ ما يتحكم فى هذه الدولة المدللة؛ عقدة تجعلها تشعر بقوة خارقة، ولكنها فى الحقيقة كاذبة، تنهار سريعًا رغم امتلاكها لكل مقومات القوة الكبيرة، والمشاهد على ذلك أيضًا كثيرة جدًا، نذكر منها:
ــ بعد احتلال سيناء 1967، بنت إسرائيل خط دفاعها الأول «خط برليف»؛ سلسلة من التحصينات الدفاعية التى كانت تمتد على طول الساحل الشرقى لقناة السويس، وقال عنه رئيس الأركان دافيد بن إليعازر: «إن خط بارليف سيكون مقبرة للجيش المصرى»، إلا أنه بعد العبور العظيم فى أكتوبر 1973، إنهار هذا الخط «بشويِّة خراطيم مياه» خلال ساعات، ووقف قادة إسرائيل فى ذهول بعد أن تم تدميره!.
ــ فى ديسمبر 1987، بدأت انتفاضة فى قطاع غزة، قام بها أطفال صغار كانت الحجارة أداة الهجوم والدفاع التى استخدموها ضد عناصر الجيش الإسرائيلى، أدت إلى استسلام الجيش الذى لا يُقهر، وتم توقيع اتفاقية أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1993، وكالعادة لم تلتزم بها إسرائيل!.
ــ فى سبتمبر 2021، تمكن ستة أسرى فلسطينيين من الهروب من سجن جلبوع الذى يخضع لرقابة مشددة، ويحتوى على مجسات تكتشف الاهتزازات داخل السجن، وذلك من خلال نفق حفره السجناء من حجرة المرحاض الموجودة بإحدى زنازين السجن، وفتحته الخارجية تقع تحت برج حراسة السجن!.
ــ وأخيرًا فى صباح السبت 7 أكتوبر 2023، غداة الاحتفال باليوبيل الذهبى لانتصارات أكتوبر 1973، اندلعت «عملية طوفان الأقصى»، فاجأت فصائلُ المقاومة الفلسطينية الجيش الإسرائيلى ــ مثلما حدث فى حرب 1973 ــ بعملية عسكرية، تكونت من هُجومٍ صَاروخى وَاسعِ النطاق، إذ وجَّهت آلاف الصواريخ صوبَ مختلف المستوطنات الإسرائيليّة، وتزامنَ مع إطلاق هذه الصواريخ اقتحام برّى من المُقاومين بسّيارات ودّراجات نّارية وطّائرات شّراعيّة للبلدات المتاخمة للقطاع، وسيطروا على عددٍ من المواقع العسكريّة للجيش الذى لا يُقهر، وأسَروا جنودًا، واقتادوهم لغَزَّة، فضلًا عن اغتنامِ مجموعةٍ من الآليّات العسكريّة الإسرائيليَّة، وأعلنوا أن هذه العملية رد على الانتهاكات الإسرائيلية فى باحات المَسْجِدِ الأقصى المُبَارك، واعتداء المُستوطنين الإسرائيليين على المُواطنين الفلسطينيين فى القُدس والضّفّة المُحتَلتين!.
أعرب المسئولون الإسرائيليون ــ قادة أقوى رابع جيش فى العالم ــ عن صدمتهم وذهولهم مما حدث لجيشهم، وعقدوا العزم على تنفيذ إبادة جماعية للشعب الفلسطينى انتقامًا منهم، وهرعوا بطلب النجدة من الولايات المتحدة التى أرسلت لهم أكبر حاملة طائرات فى العالم «جيرالد فورد»، وأتبعتها بحاملة أخرى «آيزينهاور»، وأرسلت لها بريطانيا سفينتين تابعتين للبحرية الملكية وطائرات تجسس، كل ذلك لمواجهة أفراد مقاومين يطالبون بحقوقهم المشروعة وبرفع الحصار عنهم متسلحين بأسلحة بدائية!.
• • •
هل يمكن أن نجد دولة أضعف من هذا، وجيشًا لا يستطيع الدفاع عن نفسه، ويبحث عمن ينقذه من أول مواجهة مع أعدائه؟
إنها فعلا دولة كبيت العنكبوت، اعتقدت أنها بأسلحتها المدججة تستطيع حماية نفسها، وفرض أمنها، ولكنها مثل العنكبوت تتخذ لنفسها بيتًا تحسب أنها تعتصم به فلا يمكن الاعتداء عليها، فإذا هو بيت لا يصمد، ولا يثبت لأضعف تحريك، فيسقط ويتمزق رغم أن خيوط العنكبوت أقوى من الفولاذ!
حفظ الله مصر وشعبها من فتن الأعداء، وأعان جيشها وقادتها على حفظ كل أراضى الوطن العزيز، وفى المقدمة منه أرض سيناء المصرية!.