دق جرس المنبه في السادسة والنصف صباحاً ففوجئت الست أم نديم بابنها يفط من فراشه على غير المعتاد، هو في العادة لا يلقي بالاً لجرس الصباح اللعين الذي يوقظه من أحلام لذيذة تأخذه إلى عالم الأبطال والمغامرين. يرن المنبه كل يوم فلا يحرك الصغير ساكناً، يُبَح صوت أمه فيعمل أذنا من طين والأخرى من عجين، وليس قبل نصف ساعة حتى تتمكن منه، ومع ذلك فإنه يفلت منها ويراوغ ويتوارى فتبدأ عملية كر وفر بينها وبينه أشبه بمطاردة توم لچيري. لا يفهم نديم ما تقوله له أمه كل صباح عن حاجتها لترسله للمدرسة حتى تتأهب هي نفسها للنزول، ماله هو ومال جهاز بصمتها في العمل، وما شأنه هو بخصومات التأخير في آخر الشهر وزحمة الطريق في مدينة السبعة عشر مليوناً، ولأنه لا يفهم شيئًا من ذلك والأمر كله لا يعنيه فإنه يقاوم كثيراً قبل أن يدخل في المريلة ثم يُحشَر في أتوبيس المدرسة. ولذلك اندهشَت أم نديم جداً في هذا الصباح عندما وجدَت سلوك ابنها يختلف عن سلوكه اليومي ذلك باستثناء أيام قليلة جدًا كانت الكوابيس تطارده حتى إذا جلجل صوت المنبه تخيله طوق نجاة، فترى هل كانت الكوابيس تطارد نديم في هذا الصباح؟ وهل أصلاً تنتاب الصغار كوابيس؟ لا.. اتضح أن الصغير لم يكن يعاني من كوابيس، ومن المؤكد أنه مثل كل الناس لديه ما يخيف.
***
كان نديم ابن السادسة حبيس عُمر أقل من عمره، جسده النحيل وقامته القصيرة جعلاه يُصنّف دائماً دون عمره بعام واحد وربما حتى بعام ونصف، وكان هذا الشئ سخيفاً. إنه ما صدّق أن تجاوز عمره عدد أصابع اليد الواحدة وانتقل العدّ من يده اليمنى إلى يده اليسرى ببلوغه سن السادسة، لكن هناك من لازال يصر على أن يوقف نموه ويحبس سنه في قبضة اليد اليمني. في مرحلة أولى كان هذا الأمر يشغل أم نديم، خاصة ونحن في مجتمع يجعل المظهر هو الكل في الكل، ثم عندما اطمأنت عليه من الناحية الطبية وأدركت أن الچينات تمتد إلى سابع جد، انتقلت للمرحلة الثانية وأخذت تشتغل على الجانب النفسي لابنها، في الحقيقة لم يكن عبورها من مرحلة لأخرى بهذه السهولة فبينهما مرحلة وسيطة أشبعت فيها الأم نفسها تأنيباً وكأنها مسؤولة عن الأغصان القصيرة في شجرة العائلة. على أية حال تمكنت أم نديم من العبور، و في مقابل كل تنمر واجهه صغيرها في المدرسة كانت تضخ فيه قدراً من الثقة بالنفس يكاد يلامس حد الغرور، كانت تقنعه أن نجوم كرة القدم قصار القامة وأن دور المهاجم في الملعب أهم من دور حارس المرمى وإن كان طويلاً، فالمهاجم يسدد الأهداف ويحقق الفوز أما حارس المرمى فلا يفعل إلا أن يتجنب الخسارة. يفضفض لها نديم بأنه ملّ وضعه في الصف الأول في الطابور والفصل والصور وفي كل شيء، فترد عليه بأن الصفوف الخلفية هي للكسالى وأنصاف الموهوبين أما الصفوف الأمامية فمحجوزة لعلية القوم. كانت تعلم أنها وهي تدافع باستماتة عن سلامة نديم النفسية تمرر له بعض المفاهيم الخاطئة وتخلط في عقله الواقع بالمجاز كخلطها بين وقوف المسؤولين في الصف الأول ووقوف الصغار في طابور الصباح، لكن ما باليد حيلة فوحيدها مأزوم فعلاً والدموع التي تتحجر في عينيه بعد كل موقف محرج تمطرها هي بسيل من الإبر تَخِزُ وتؤلم. لازال أحد لم يُجب بعد عن السؤال: لماذا فط نديم من فراشه في هذا الصباح؟
***
فاجأ الصغير أمه وفتح كفه فإذا بسِنِته الأمامية المدممة تتوسطها، يااااه أخيراً؟ قالتها الأم وكل جزء فيها يضحك على طريقته الخاصة: قلبها.. فمها.. عيناها.. طبقات الشحم المتجمعة فوق بطنها. هذه السِنة اللعينة كانت ثابتة في مكانها كالطود لا تهتز ولا تتخلخل، حتى ودّت أم نديم لو أغمضت عينيها وفتحتها فلم تجد لها أثراً في فم ابنها كما لا يوجد لها أثر في أفواه كل تلاميذ فصله، وها هي أمنيتها العبيطة قد تحققت. متي سقطَت السِنة يا نديم؟ رد: بالليل وأنتِ نائمة. رفعته بين ذراعيها وراحت ترقص به وتطوحه في الهواء كأنه ريشة، هل تبديل سِنة واحدة يستحق كل هذا الصخب؟ السؤال مضلل علي هذا النحو، وصحيحه هو: هل شعور نديم بأنه ليس أقل من غيره يستحق كل هذا الصخب؟ بين الصيغتين يوجد فرق كبير. وهذا الفرق وحده هو الذي يفسر تعجل نديم الذهاب للمدرسة، سيحمل سِنته ويباهي بها أقرانه، سيخلي شفتيه لابتسامة عريضة تكشف ما تكشف وسيملأ الفجوة في فكه الأسفل ثقةً وزهوًا وشقاوة. الآن فهمتك يا نديم.. قالت الست والدته. لكن.. لكن مهلاً بعض الشيء.. فاتني وفاتك بالتأكيد أن مدرستك في عطلة مفتوحة بسبب الكورونا، ولم تلتفت أنت ولا أنا إلى أن جرس السادسة والنصف صباحاً إنما كان يدق لي أنا.
***
أفلت الصغير من بين ذراعيّ أمه وسِنته في راحته، هو مُحبط بالتأكيد لأن أحداً من رفاقه لن يأخذ خبرًا بالتطور الجبار الذي حدث له مساء أمس، ومن يدري عندما يلتقيهم بعد خمسة شهور أو أكثر فكم سِنةٍ أخرى جديدة سيتفوقون بها عليه، هو خلفهم وسوف يظل خلفهم. مع أن خلايا الإبداع لدى الأم كانت ماتزال ناعسة في هذا الوقت المبكر من الصباح، إلا أن الظرف استدعى تنشيطها بسرعة، أشارت أم نديم لابنها أن يتبعها ففعل متكاسلاً، فَتَحَت النافذة على آخرها وقالت له: لو أنك ذهبت بسِنَتك إلى المدرسة لما علم بالخبر أحد إلا الرفاق، أما إن نحن ألقيناها في عين الشمس الشموسة فالكون كله سيحاط علماً بالخبر، وستنقل أشعتها الذهبية الخبر إلى كل مكان حول العالم. انتبه نديم وقال: لكن الشمس أخذت أسناني من قبل ولم تخبر أحداً، ردّت: لأننا لم نكن نطلب منها ذلك والآن سنطلب. ساد الصمت وتوترت الأم لأنها لم تكن تثق في أن حجتها ستنطلي على صغيرها، لكنها انطلت. انفرجت رويداً رويداً تقاطيع نديم وضغط بكل قوته على راحته ثم ألقى سنِته بعيداً بعيداً في عين الشمس وترامت إلى أذنيه تهاني وتبريكات وسمعتها أمه معه!