سُحب الغضب تتجمع - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 5:40 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

سُحب الغضب تتجمع

نشر فى : الأربعاء 26 يونيو 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الأربعاء 26 يونيو 2013 - 8:00 ص

الدم يغلى بالغضب. لم أتصور الاتراك منضمين إلى قوافل الغضب بهذه السرعة أو بهذه الدرجة. توقعت أنهم لن يتحملوا غطرسة رئيس حكومتهم طويلا ولن يتحملوا اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء.

 

•••

 

فى الريو أيضا كان الدم يغلى. هنا كذلك لم أتصور أن البرازيليين يمكن أن يغضبوا وينتشر غضبهم بهذه السرعة وبهذه الدرجة. توقعت أنهم مستمتعون بمؤشرات النمو ومنشغلون بمباريات كرة القدم استعدادا لكأس العالم.

 

•••

 

فى أماكن أخرى ولأسباب أخرى وبدرجات أخرى كان الدم يغلى. أذكر أنه قيل فى تحليل ظاهرة الاحتجاجات، أو الثورات الناشبة فى أنحاء عديدة من العالم، أنها لم تكن من أجل رغيف الخبز بقدر ما هى من أجل قيم وحريات وكرامة وأمانة وصدق وضد الفساد. مكانة رغيف الخبز تتغير، هى العنصر الثابت فى كل الثورات والانتفاضات والاحتجاجات. لا أستطيع القول بثقة، كما كنا نقول قبل عقود، إن شعوب الهند والبرازيل وتركيا ومصر وسوريا وليبيا وتونس واليمن وإسبانيا والبرتغال واليونان وإندونيسيا والسويد وغيرها تثور لدوافع أيديولوجية مثل ثورات القرن الماضى التى نشبت رافعة شعارات الشيوعية والفاشية والقومية العربية. الشعوب تثور اليوم من أجل استعادة كرامة وحرية وحق.

 

•••

 

غريب أمر شعوب هذه الأيام، تغضب وتثور لأن حاكما استبد. ولكنها لا تغضب حين تعلم أن حاكما يستعد ليستبد مستعينا بأحدث ما وصلت اليه التكنولوجيا. تعلم الشعوب أن الحكومات، أكاد أقول كافة الحكومات، تتجسس على مواطنيها. تعلم ولا تغضب الغضب الذى يستحقه تجاوز على هذا المستوى. لم يعد سرا، بعد الكشف عن اسرار برنامج «بريزم» والاتهامات المتبادلة بين الحكومات وغطرسة ردود أجهزة الاستخبارات وحماسة بعض وسائط الإعلام دفاعا عن التجسس أن الحكومات عموما، وحكومات أمريكا وبريطانيا وأستراليا ونيوزيلاند تحديدا، تشترك فى ممارسة أبشع عملية تجسس على مئات الملايين من الرسائل النصية الهاتفية والبريدية الإلكترونية وعلى كافة الاتصالات التى يجريها الانسان المعاصر. أستطيع، مثل غيرى، أن أتصور أن جملة هذه التسجيلات، أو جزءا منها، هو الآن سلعة أو منحة أو قرض تساوم عليه هذه الدول وأجهزتها السرية لتحصل فى المقابل على امتيازات وصلاحيات.

 

•••

 

بعض هذه التسجيلات يحتوى على كلام تبادله اثنان ثالثهما شبكة عنكبوتية مجهولة الهوية، بدت وبدأت فى ظاهرها غير منحازة بل ومؤتمنة. كلنا. فى مرحلة أو أخرى، ومنذ أن كان الهاتف الأرضى وسيلتنا الوحيدة للاتصال إلى جانب الرسالة الخطية وعينا درس ألا نتفوه بكلمات تحسب علينا. كنا نكتب الرسائل ونقرأ ما كتبناه قبل إرسال الرسالة لنتأكد من أن الرقيب لن ينتبه إلى معنى سربناه تسريبا. لا أنسى التأنيب العلنى الذى وجهه رئيس الدولة فى خطاب جماهيرى إلى دبلوماسى مصرى كتب من الخارج إلى صديق له فى القاهرة يمتدح طيب اللحوم ووفرتها فى البلد التى يعمل فيها.

 

•••

 

لم يخطر على بالنا الغاضب فى ذلك الحين أن يوما سيأتى نسمع فيه عن أن بيننا من يستعد، بمساندة من أجهزة الاستخبارات، لا لتطوير وسائل المراقبة على ما نكتب أو نتفوه به فهذه تطورت وانتهى أمرها، ولكن لتطوير أجهزة تسجل «عواطفنا ومشاعرنا» حتى وإن كنا خرسا لا ننطق بكلمة وأميين لا نكتب حرفا.

 

 جهاز من هذه الأجهزة فى جيبك سوف يحذرك من أنك على وشك أن تصاب بالملل، أو أن مزاجك بعد قليل «سيتعكر». جهاز آخر، أو لعله الجهاز نفسه. ينقل للآخرين الذين يراقبونك، انبهارك إن كنت رجلا بامرأة مرت أمامك، وإن كنتِ امرأة برجل يخطب فى جمع أو يقف شامخا وجذابا وسط شلة من أصدقائه. هذا الجهاز أو غيره سينقل إلى الإنترنت على مدار اليوم كافة رغباتك العاطفية والسياسية أو أى رغبة أخرى تلح عليك.

 

 يدافعون عن هذه الأجهزة التى ستبعث برسائل متعاقبة عن حالتك النفسية ومشاعر الحرمان والسعادة فيقولون أن هذه الرسائل سوف تفيد الأطباء المعالجين فى تتبع أخبار مرضاهم ساعة بساعة دون الحاجة إلى ممرضة مقيمة أو الذهاب إلى المستشفى. سيتصل الطبيب بالمريض فى لحظة استلامه رسالة الرقابة على الأحاسيس والمشاعر ليؤكد عليه الامتناع عن تلبية رغبة معينة تلح عليه وكان على وشك أن يلبيها، أو ليحذره إن كان رجلا ويحذرها إن كانت امرأة من أمارات غيرة على وشك أن تظهر على ملامح الوجه. يقولون أيضا إن شركات التأمين بدأت تمول البحوث المتقدمة فى تنفيذ هذا الاختراع لأن التسجيلات التى يمكن أن تحصل عليها ستفيدها فى تقييم مستقبل المؤمن عليه وطموحاته وحالته الصحية وتأثير علاقاته العائلية على استقراره النفسى.

 

 •••

 

 

عواطف المواطن ومشاعره وأمزجته ورغباته تكشفها أجهزة مدسوسة فى جسمه أو مكتبه أو فى الكمبيوتر الخاص به. وظيفتها مراقبة تغيرات فى ملامح الوجه ونظرات العينين ونبض القلب وفى نعومة البشرة وألوانها. لن تكون هناك حاجة لممارسة التعذيب لمعرفة حقيقة مشاعر الفرد تجاه السلطة أو لمعرفة طبيعة علاقاته بالزملاء والرؤساء. يستند البرنامج الذى ستستخدمه هذه الأجهزة إلى برنامج أنتجته شركة ميكروسوفت وتستعد لتسويقه نهاية هذا العام، ويعتمد بدوره على كاميرا لا تراها العين المجردة وجهاز استشعار يستخدم الأشعة تحت الحمراء لقياس نبض القلب.

 

 •••

 

 

ما زال الغضب على برنامج بريزم ناعما، وهو البرنامج الذى يعنى أن كل ما سطره الانسان فى رسائله الإلكترونية طول حياته وكل ما نطق به واستمع إليه عبر اتصالاته الهاتفية والمرئية ستحفظه للتاريخ وإلى الأبد سجلات فى أرشيفات أجهزة المخابرات والشركات العملاقة. الآن تأتينا أخبار عن برامج أحدث تسجل كل ما شعر به الانسان خلال حياته من لحظات سعادة وتعاسة وحب وكراهية وغضب وقلق وملل وغيرة وطموح وجوع وشبع، سجل بالرغبات ما لبى منها وما لم يلب، سجل بكل ما راود الانسان ولم يعبر عنه كتابة أو نطقا. «سجل مشاعر» محفوظ فى شرائط بأدراج أو أرفف أجهزة مخابرات وشركات تجارية ومستشفيات.

 

•••

 

 ويسألون، لماذا نغضب؟!

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي