اكتسب الجدل المحتدم، منذ أربعة عقود؛ بشأن التحديات، التى تهدد مستقبل كوكبنا المائى، ضمن ما يعرف بمجتمع المخاطر العالمى، زخمًا هائلًا، على وقع حدثين جللين دهما الولايات المتحدة، مطلع العام الجارى. تجلى أولهما، فى حريق لوس أنجلوس، الذى تصدر قائمة أشد الكوارث الطبيعية، تدميرًا وكلفة، فى التاريخ الأمريكى. كما سلط الضوء على: تداعيات تعاظم الاحترار العالمى، تنامى معدلات الجفاف، وانعدام المساواة التنموية داخل المجتمع الأمريكى. وأما ثانيهما فتمثل فى استهلال، ترامب، مهام ولايته الرئاسية الثانية؛ بتوقيع مراسيم رئاسية، تتيح معاودة الانسحاب من اتفاق باريس للمناخ، وتقويض برامج التحول الطاقوى، والتوسع فى إنتاج الوقود الأحفورى، وإطلاق أضخم مشروع بنية تحتية للذكاء الاصطناعى.
فى سفره المعنون: «مجتمع المخاطر العالمى.. بحثًا عن العالم المفقود»، الذى أصدر المركز القومى للترجمة بالقاهرة، نسخته العربية سنة 2013؛ يرصد السوسيولوجى الألمانى، أولريش بيك، طائفة من الأخطار، التى طفقت تلاحق المجتمعات الصناعية الما بعد حداثية، بحلول نهاية القرن العشرين. كمثل: التغيرات المناخية، والممارسات الإرهابية، والتوترات الجيوسياسية، والاضطرابات الاقتصادية والأزمات السياسية. وبينما قدم، أولريش، أطروحته المثيرة، لأول مرة، عام 1986، بالتزامن مع كارثة تشيرنوبل النووية، فقد سلط الضوء على صعوبة التنبؤ بغالبية الأخطار، التى تدهم البشر أو التهديدات، التى تتربص بمستقبل كوكبهم. حيث أثبتت جل الأحداث الجسام، التى عصفت بعالمنا خلال النصف الثانى من القرن العشرين، صدق الحكمة السقراطية المزمنة، التى مفادها: «إننا لا نعرف شيئًا».
يعتقد رهط من العلماء أن مستقبل البشرية يرتهن بثلاث أزمات كوكبية طاحنة، تتصل باضطراب الطبيعة، ارتباك التنوع البيولوجى، وتفاقم التغيرات المناخية. حيث يُسجل عالمنا ارتفاعًا مخيفًا فى معدلات انحسار التنوع البيولوجى، مع تنامى أعداد النباتات والحيوانات المهددة بخطر الانقراض، فضلًا عن تدهور صحة المحيطات. وتتطلب حماية وضمان استدامة التنوع البيولوجى، اعتماد منظومة تدابير متكاملة، تشمل: تعزيز الحوكمة البيئية والاجتماعية، من خلال هندسة بنية تشريعية وقانونية مواتية، الانخراط الإيجابى فى المبادرات والفعاليات الدولية، أنسنة الآلة، بناء علاقات أكثر توازنًا بين التقنيات الحديثة والبشر، وتقليص الانعكاسات السلبية، لتجاوز الحدود بين العوالم المادية، الرقمية والبيولوجية، على الأعراف، والقيم الاجتماعية والمبادئ الأخلاقية.
لفت تقرير أصدرته الأمم المتحدة عام 2019، إلى أن تحقيق هدف اتفاق باريس للمناخ للجم الاحترار العالمى وإبقائه ضمن حدود 1.5 درجة مئوية؛ يستوجب تقليص انبعاثات الغازات الدفيئة، بمعدل 7.6% سنويًا. بدورها، حذرت «الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيُّرالمناخ» من أن الفشل قد يفضى إلى عواقب مناخية وخيمة. كيف لا؟! وقد أعلنت المنظمة العالمية للأرصاد الجوية، قبل قليل، أن عام 2024 كان العام الأكثر احترارًا على الإطلاق. إذ ارتفعت درجة حرارة الكوكب بمقدار 1.55 درجة مئوية، فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية الأولى.
يتوقع الباحث، ديفيد والاسويلس، فى مؤلفه المعنون: «الأرض غير القابلة للحياة: الحياة بعد الاحتباس الحرارى»، أن تصعقنا التغيرات المناخية بتداعيات مفجعة تفوق تصوراتنا. وفى كتابها المثير، بعنوان: «نهاية كل شىء»، تتخوف عالمة الفيزياء الفلكية الألمانية، كاتى ماك، من نهاية تعيسة لكوكبنا. كما حذر مشروع تقرير أعده خبراء المناخ بالأمم المتحدة فى يونيو الماضى، من أن التغير المناخى سيدمر، حتمًا، الحياة على كوكبنا الأزرق، فى غضون ثلاثين عامًا. كذلك، استبعدت دراسة أمريكية حديثة، العودة إلى معدلات النمو الاقتصادى لما قبل عام 2023. كما توقعت خسارة الاقتصاد العالمى 23 تريليون دولار، بجريرة التغيرات المناخية، بحلول عام 2050.
تؤكد تقارير الأمم المتحدة؛ أن الجفاف، الناجم عن التدمير البشرى للبيئة، يُكبد العالم 307 مليارات دولار سنويًا. ما قد يؤثر سلبًا، على حياة 75% من سكان العالم، فى غضون ربع قرن. بدوره، أشار البروفيسور بول إيرليخ، من جامعة ستانفورد، إلى تحذير الصندوق العالمى للحياة البرية، من إمكانية تعرض سكان الأرض، خلال العقود الخمسة المقبلة، لموجة سادسة من الانقراض الجماعى، لم يعرفها كوكبنا منذ انقراض الديناصورات وكائنات حية شتى، قبل 66 مليون سنة، جراء ارتطام كويكب صغير به، وقتذاك. إذ سيفضى التغول فى إزالة الغابات والصيد الجائر، إلى تدمير الكائنات الحية قاطبة.
كذلك، حذر مدير جهاز الاستخبارات البريطانى، من أن العالم يعيش أخطر أحقابه منذ أربعين عامًا. حيث تنتشر الحروب، تحتدم سباقات التسلح التقليدية وغير التقليدية، يطغى شبح الحرب العالمية الثالثة النووية، وتتعاظم مخاطر الذكاء الاصطناعى. وخلال الدورة الـ76 للجمعية العامة للأمم المتحدة، حذر قادة 58 دولة جزرية صغيرة، تكابد تداعيات ظواهر الطقس المتطرفة وتغير المناخ، كمثل: الأعاصير، العواصف، الأمطار الغزيرة، الجفاف، ارتفاع مستوى سطح البحر وتحمض المحيطات؛ من أن دولهم ستواجه تهديدًا وجوديًا، إذا ما تخلت الدول الغنية عن تعهداتها لكبح جماح تلك التداعيات.
بحلول عام 2017، استطلعت مجلة «تايمز هاير إيديكايشن» البريطانية، رأى خمسين شخصية عالمية حاصلة على جائزة نوبل بمختلف التخصصات العلمية، بشأن السيناريوهات الأكثر احتمالية لنهاية العالم. ورسم العلماء عشرة سيناريوهات، جاءت المخاطر البيئية فى مقدمتها. حيث اعتبر 18عالمًا أن التغير الديموغرافى سيفاقم تدهور شروط الحياة الطبيعية، التى تتطلب توفير الغذاء، الماء والهواء النقى. فيما اعتبر 12 عالمًا أن السيناريو الأكثر ترجيحًا يكمن فى اندلاع مواجهات نووية بين القوى العظمى. ورأى أربعة آخرون أن ظهور أمراض وأوبئة جديدة سيتسبب فى فناء الحياة على الأرض. وقد كشف الاستطلاع عن سيناريوهات كارثية أخرى؛ كمثل: تعاظم «أنانية» البشر وانغماسهم فى العالم الافتراضى ومواقع التواصل الاجتماعى، بما يقوض إنسانيتهم. تنامى جهل وتهور بعض زعماء العالم، إلى الحد الذى يزج بالكوكب إلى حافة الهاوية. تمكن تنظيمات إرهابية من استغلال الذكاء الاصطناعى أو امتلاك أسلحة الدمار الشامل.
من جهتهم، دق علماء حاصلون على جائزة نوبل فى العلوم، ناقوس الخطر لزمرة مهددات، على شاكلة: «الجهل، التعتيم على الحقيقة، الذكاء الاصطناعى، تفشى الظلم، انعكاسات الثورة الصناعية الرابعة، وتفاقم إدمان المخدرات. فبقدر ما ساعد التقدم التكنولوجى على تحسين معيشة البشر، والارتقاء بمستويات الرفاهة للعديد من المجتمعات؛ إلا أنه فاقم من التهديدات والمخاطر الناجمة عن عدم توفير الأمان أو المساواة. اقتصاديًا، حذَّر البنك الدولى من التداعيات السلبية لانكماش العمالة فى الاقتصادات المتقدمة». كما توقع أن تفضى الرسوم الجمركية والإجراءات الحمائية، التى يعتزم ترامب، فرضها على شركاء واشنطن التجاريين، إلى تقليص النمو الاقتصادى العالمى الهزيل هذا العام، بنحو 0.3 نقطة مئوية. خصوصا إذا أقدم أولائك الشركاء على فرض رسوم جمركية انتقامية مضادة.
يقول الحق تبارك وتعالى، فى الآية الثلاثين من سورة البقرة: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّى جَاعِلٌ فِى الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ، وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّى أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ». وفى تفسيرها، يرى ابن عباس، ابن مسعود، ونفر من فقهاء الصحابة: أن الجن سكنوا الأرض قبل خلق آدم بألفى سنة، لكنهم أفسدوا فيها وسفكوا الدماء. فرماهم الله بجند من الملائكة، قهروهم وألحقوهم بجزائر البحور. ومن ثم، توقع الملائكة إفساد البشر فى الأرض، قياسًا على تجربة الجن.
إلى حد بعيد، تتقاطع مقاربة مجتمع المخاطر العالمى، مع قضية الإفساد فى الأرض. فرغم ما ألحقوه من أذى بالأرض، تشير خواتيم الآية الكريمة، إلى إحاطة الله تعالى، بأن خلائف البشر، سيتضمنون أنبياء، رسل، ومؤمنين صالحين يحظون برضاء خالقهم ويرثون جنته. وهنالك، يلوح الرجاء فى أن تنبلج من رحم مجتمع المخاطر العالمى، وحماقات بعض قادته؛ فئة رشيدة، تنهض لاستنقاذ كوكبنا البائس. فرغم سطوة سياسات الطاقة الترامبية، أطلق ملتقى دافوس الأخير «منتدى التحول العالمى للطاقة». ومن قبله، أظهر التفاهم الأمريكى-الصينى، حول إقصاء الذكاء الاصطناعى عن الاستخدامات المحتملة للأسلحة النووية؛ استعداد القوى العظمى، للتوافق بشأن أنسنة التطور المعرفى، وتقنين ولجم التقدم المتسارع بمجال الذكاء الاصطناعى العسكرى. ولعلها تكون بداية مبشرة على درب عسير، لكن لا مندوحة عنه؛ لإدراك أمنية الرئيس الفرنسى الأسبق، فرنسوا هولاند، المتمثلة فى «ضرورة حماية هذا الكوكب وتسليمه معافًا للأجيال المقبلة».