هل هى مصادفة أن تشن إسرائيل حربها الثالثة أو الرابعة أو الخامسة على غزة، فى هذا التوقيت بالذات، وبينما معظم الدول العربية فى شغل شاغل عنها، نتيجة انخراط الأنظمة فى حروب دفاع عن وجودها داخل حدودها؟
سوريا المنهكة بالحرب فيها وعليها منذ أكثر من ثلاث سنوات ما يزال جيشها يقاتل فى أنحاء عدة تمتد من أقصى الشمال فى قلب حلب وعند الحدود مع تركيا إلى أقصى الجنوب.
أما العراق فكان مشغولا (وما زال) بمكافحة الفتنة السنية الشيعية التى يؤججها الصراع على السلطة بين التشكيلات المختلفة التى جاء معظمها من المهاجر، حيث كانت المعارضة تعيش لائذة بحماية هذه الدولة أو تلك، لا فرق بين أن تكون عربية كـ(سوريا) أو أجنبية.
وأما مصر فمشغولة بمشكلاتها الداخلية الثقيلة، وأخطرها «الحرب المفتوحة» على الإخوان المسلمين ومعهم، وهى تتمدد عبر تشكيلات أصولية تتمركز فى صحراء سيناء وتحاول فتح جبهة قتال متنقل فى المدى المفتوح على السلاح الليبى وعلى المخابرات الإسرائيلية وعلى كل من يريد المشاغبة على الحكم الجديد فى القاهرة.
فأما ليبيا فتجتاحها الحرب الأهلية شرقا وغربا، ممزقة أوصالها، مهددة تونس،
وأما الجزائر فتخاف النار الليبية وكذلك النار الأصولية المتقدمة اليها من أفريقيا السوداء عبر مالى والجنوب الليبى،
وأما المغرب فبعيد بعيد..
غزة وحيدة إذن، والسلطة أعجز من أن تنجدها، ومعظم العرب يتذرعون بأنهم ضد الهيمنة الإخوانية على هذا القطاع المحاصر بالنار الإسرائيلية، برا وبحرا وجوا، وبالتالى فهى معركة لا تعنيهم مباشرة، حتى لو فهم هذا الموقف وكأنه انحياز إلى العدو الإسرائيلى.
•••
على هذا، تعيش المنطقة التى كانت لها هوية عربية محددة، والتى فقدت وعيها بذاتها، وتفتقد الآن الطريق إلى مستقبلها، حالة من الضياع وافتقاد اليقين، فى حين تتقدم الدول الكبرى بالقيادة الأمريكية ومعها إسرائيل، لتقرر لها مصير «دولها» بعد النظر فى هويتها بأصولها التاريخية، متجاوزة واقعها السياسى الراهن والمهدد بالسقوط. فجأة عاد المشرق العربى، أو بلاد الشام تحديدا، مجموعات متنافرة من «الهويات» العرقية والدينية والطائفية والقومية، لا رابط بينها ولا أرض تجمعها فتعطيها أصالة الانتماء، ولا علاقات راسخة فى ما بينها على امتداد التاريخ. اختفت أو أُخفيت الهوية العربية الجامعة، وتم تشويهها وتحقيرها، واتهامها بالعنصرية واضطهاد الأقليات، القومية منها والدينية. صار شعب العراق، مثلا، مجاميع من العناصر والمكونات. الأعرق والثابت على مر الدهور هم الكلدان والآشوريون والسريان، ومعهم الصابئة والإيزيديون، ثم يأتى الأكراد الذين ينتبهون بعد دهور أن الإيزيديين منهم، وأنهم حماة الأقليات فى المناطق الجبلية من شمال العراق، مع التمدد فى اتجاه الشرق والشمال الشرقى فى سوريا. فأما «العرب» فى بلاد الرافدين فهم شيعة وسنة فرضت عليهم لعبة السلطة أن يكره بعضهم البعض الآخر إلى حد الاقتتال، وأن يصطرعوا على السلطة فيُسقطوا المحرمات وهم لم يتورعوا فى فترات معينة عن الاستعانة بالاحتلال الأجنبى (بريطانيًا كان أم أمريكيًا) ضد بعضهم البعض.
•••
بالمقابل صار شعب سوريا، بدوره، أكثرية «سنية» مغلوبة على أمرها تحت هيمنة أقلية «علوية».. أما بعد تفجر الأوضاع فى العراق فقد حاول الغرب (ومعه بعض العرب) تصوير سوريا كمجمع لأقليات قومية وعرقية ودينية وطائفية: فهناك العرب والسريان والكلدان والآشوريون والترك والأرمن، وهناك الأكثرية السنية، وإلى جانبها العلويون والمسيحيون (بغالبية أرثوذكسية وأقلية مارونية) والدروز والإسماعيليون مع أقلية شيعية.
إسقاط الأكثريات أو الطعن بجدارتها فى تسلم السلطة هو شرط تبنى مطالب الأقليات بالمحاصصة والشراكة فى السلطة ولو بأكثر مما هو ضرورى لتوكيد وحدة المجتمع، وبالتالى وحدة الوطن ودولته.
ولقد سمح فشل الحكم فى العراق، الذى دُمغ بالعصبية الشيعية، بتبنى الغرب المطالب القومية للأقلية الكردية فى الشمال العراقى بتحويل «الإقليم» المتمتع بالاستقلال الذاتى، داخل الدولة العراقية، إلى «مشروع دولة» بقوة الأمر الواقع: فالدولة المركزية فى بغداد متصدعة، والخلافات تعصف بالكتل و«الكيانات» السياسية القائمة أصلا على قاعدة مذهبية.. ثم إن الصراع مفتوح بين قوى التأثير الخارجى: فصيغة الحكم القائم هى من إبداع الاحتلال الأمريكى للعراق (سنة 2003)، إذ وزع قمة السلطة على قاعدة طائفية عنصرية، إذ أعطيت رئاسة الدولة للأكراد من دون صلاحيات فعلية بحيث يكون «الرئيس» أقرب إلى الرمز، فى حين أعطيت رئاسة الحكومة للشيعة (العرب)، بينما أعطيت رئاسة المجلس النيابى للسنة (العرب).
الطرف الثانى المؤثر فى صيغة الحكم العراقى هو إيران التى قاتلها حكم صدام حسين لمدة سبع سنوات طويلة حافلة بالقتل والتدمير.. ولقد دمغ الشيعة العرب فى العراق بالولاء لإيران، بغض النظر عن تاريخهم القومى ودورهم الوطنى فى بلادهم.
وهكذا تمت إقامة سلطة قابلة للانفجار فى أى لحظة نتيجة تغليب العوامل الطائفية والمذهبية والعنصرية على الرابط الوطنى، مع الأخذ بالاعتبار أن هذه العوامل تتسع للنفوذ الأمريكى، ومعه النفوذ الإيرانى الذى سمحت له الحرب فى سوريا وعليها بالتمدد.
•••
المهم أن الهوية العربية المؤكدة لهذه المنطقة قد تعرضت للتشويه بحيث بات ينكرها بعض أهلها.. بالمقابل تم تفريع الإسلام، طائفيا وعنصريا، فصار الانتماء المذهبى العنصرى هو الملجأ، خصوصا أن هذا التفريع يمهد للتدخل الأجنبى ويمكن له.
فى هذه الأجواء السائدة فى كل من سوريا والعراق، سقط تنظيم «الدولة الإسلامية فى العراق والشام» من الفضاء الخارجى، واكتسحت جحافله الجرارة ثلث الأراضى العراقية أو يزيد، بعدما سقطت بين يديه الموصل، العاصمة الثانية للعراق بعد بغداد، من دون قتال.
كانت دول الخليج أو معظمها طرفا فى الحرب على سوريا وفيها، بالشراكة المعلنة مع تركيا، وليس سرا أنها تبنت العديد من التنظيمات المقاتلة ذات الشعار الإسلامى.
أى أن «الأرض» كانت جاهزة لفتنة كبرى جديدة بين السنة والشيعة تمتد من بلاد الرافدين إلى بلاد الشام، وهى فتنة لها من يغذيها من «دول الجوار» كما من الدول البعيدة، على أن يتكفل «الأغنى» بكلفة السلاح والتجهيز. وهكذا فقد وصلت جحافل داعش فى موعدها بالضبط: الفتنة معززة بالفساد تشغل السلطة فى بغداد عن مهماتها فى حماية البلاد، فى حين ان الفصائل المسلحة للمعارضات السورية متعددة المنشأ والشعار تشغل الحكم فى سوريا، بل وتخرجه من بعض مراكز البلاد وجهاتها. وجد «الخليفة أبو بكر البغدادى» الطريق سالكة وآمنة إلى الموصل، فاتخذها عاصمة للإعلان عن انتصار دعوته، واعتلى منبرها داعيا المسلمين إلى بيعته وإلا فالسيف. ولم يُضِع الوقت هدرا بل دفع جحافله باتجاه أنحاء عراقية أخرى، مستندا إلى «تحالف الضرورة» أو التلاقى على هدف مشترك بينه وبين قدامى البعثيين المطاردين بعد سقوط نظام صدام حسين، ومعهم بعض الفرق الصوفية كالنقشبندية. وهكذا اجتاح كامل محافظة نينوى، وأعمل السيف فى الأقلية الإيزيدية فى سنجار وجوارها، وأرسل فصائل مقاتلة فى كل اتجاه.
•••
من أين دخلت هذه الجحافل التى اجتاحت غرب العراق وتقدمت حتى الموصل؟
واضح أن العديد من هذه القوات قد جاء من تركيا، متقدما بغير قتال يذكر فى الشرق السورى (منطقة الحسكة دير الزور مع توسع فى اتجاه الرقة).. مما يشير إلى تسهيلات تركية، ربما تمثلت بإغماض العيون عن الحشد الداعشى، وربما تجاوزته إلى شىء من الدعم.. خصوصا إذا ما تذكرنا أن تركيا هى المشترى الوحيد للنفط السورى الذى صادرت قوات داعش بعض منابعه فى المناطق التى وضعت يدها عليها فى شرق سوريا. وليست تهمة مهولة بعد ذلك أن تبيع حكومة أردوغان هذا النفط المنهوب إلى إسرائيل، بأقل من السعر العالمى، موفرة لداعش أسبابا إضافية من الدعم «عملة صعبة».
مع غياب مصر، بثقلها المعنوى، تختل الموازين وتتداخل المفاهيم، وينتعش مناخ الفتنة المذهبية، فتسقط السياسة.
ومن دون سياسة، تسود مفاهيم دينية مضللة، وتختلط الأمور على الناس، كما حالنا هذه الأيام.