ها هي جامعة القاهرة تجدد شبابها وهي تستعد لاستقبال دفعة من الطالبات والطلاب الجدد وكأنها شجرة ربيع تستبدل أوراقها النضرة بالأوراق اليابسة، أعلم أن تشبيه خريجي دفعة ٢٠١٨ بالأوراق اليابسة تشبيه غير موفق لأنهم يقينا ليسوا كذلك لكن جوهر المقارنة الوحيد يكمن في تجديد الأوراق . تدق ساعة الجامعة بصوت أعلى من المعتاد، ابتهاجا ربما، جذبا للاهتمام ربما، مسايرة لهذه الحيوية التي تدب فجأة في أوصال الجامعة ربما، وربما لكل هذه الأسباب مجتمعة، لكن هل فعلا تدق ساعة الجامعة أعلى من المعتاد ؟ لعله انطباع . سيسألني أحدهم : لماذا اختصار جامعات مصر في جامعة القاهرة ؟ آه ..هذا سؤال له إجابتان ، إحداهما أن جامعة القاهرة هي الجامعة التي أستطيع أن أحكي عنها بحكم الخبرة ، والأخرى أنني مثل كثيرين غيري نتكلم عن اللامركزية الإدارية لكن فكرنا مركزي .. وبعض الصراحة لا يضر .
***
أكشف الغطاء عن تفاصيل أول أيامي في الجامعة وأجدد ذكرياتي مع جغرافية المكان، مع هذه البوابة الحديدية الكبيرة التي عبرت منها أجيال واعتلاها متظاهرون، مع هذه التحفة المعمارية التي يلقبونها اختصارا بالقبة والتي خطب تحتها رؤساء وغنّى فنانون كبار، مع كافيتريا كلية الاقتصاد والعلوم السياسية القائمة في الحديقة الملاصقة لها تماما، هذه الكافيتريا لم تعد موجودة .. الآن توجد دار كبيرة للضيافة ، أحيانا يكون الماضي أجمل . أعلى باب الكلية كانت توجد لافتة كبيرة ترحب بالطلاب الجدد دفعة ١٩٧٤ في الثانوية العامة وأنا من بينهم ، ياااااه ، عندما ألفظ الأرقام الأربعة التي تتكون منها سنة الالتحاق بالجامعة تبدو لي كأنها دهر بل هي عمر . أقبلت على دراسة السياسة ولم أكن قد قرأت كثيرا في السياسة ، أحب الأدب أكثر، لاحقا سأدرب نفسي على حب السياسة ، تضعنا الحياة بين خيارات كثيرة منها الاختيار بين التأقلم والفشل وقد اخترت التأقلم .
***
كان عام ١٩٧٤ عاما فاصلا بين ما قبله وما بعده ، ما قبله شهد هيمنة اليسار على الجامعة بزخمه ومظاهراته واعتصاماته احتجاجا على حالة اللاسلم واللاحرب مع إسرائيل ، وما بعده عاصر تعافي الجماعات الإسلامية التي أطلقها السادات على اليسار بحرامها الكثير وجنازيرها الجاهزة للردع . قالت الجماعات إياها إن الغناء حرام ، كيف يكون الغناء حراما وقد غنى حليم رائعته توبة في فيلم أيام وليالي داخل حرم الجامعة؟ توجد في الأمر خدعة ، يا ربي ماذا جرني لساحة الجامعة وزج بي في صراع اليسار مع الإسلاميين؟ أحّن إلى مدرستي بوداعتها وسلامها وبراءتها، أحّن إلى الفناء الترابي منزوع السياسة. أجلس في مدرج رقم (١) أستمع إلى الترحيب بالطلاب الجدد ولا أشعر أني من بين المحتفي بهم ، فشعوري بالرهبة يطغى ، كلام كبير عن أن الدراسة في الجامعة تختلف عما قبلها، ما معنى هذا الكلام بالضبط؟ أو لن يوزعوا علينا كتبا نحفظها ونمتحن فيها آخر العام فننجح ونتفوق ؟ تزول فرحتي بهذا الفستان الميدي( أي متوسط الطول) الذي اشتريته من إيطاليا في رحلة أوائل الثانوية العامة بعد أن كانت فرحتي بخلع الزِّي المدرسي عظيمة، نعم هو أنيق لكن ماذا تفعل أناقة الفستان مع هذه الورطة التي وجدت نفسي فيها وأنا لا أعرف كيف سأذاكر وأنجح؟! لو كان اختراع التليفون المحمول معروفا وقتها لما ترددت في مكالمة مدرس الفلسفة أستاذ مخلص أطلب نجدته وأسأله ما العمل ، لكن كان لابد أن يمر ما لا يقل عن ربع قرن حتى يصير التليفون المحمول معروفا ومتداولا ، فهل سأبقى على هذا الحال من التوتر طيلة خمسة وعشرين عاما؟
***
وجوه.. وجوه.. وجوه كلها غريبة عني.. ولولا بعض زميلات المدرسة لأصبحت غربتي تامة وخوفي لا يحتمل . بين ذراعّي أضم كشكولا من الطراز الحديث ، يغير ألوانه كلما حركناه إلى أعلى أو أسفل ، وأنا أحب الألوان، في هذا الكشكول دوّنت بعض الملاحظات التي خرجت بها من الكلمة التي ألقاها علينا العميد في الصباح، كان يتكلم بسرعة كبيرة وخرجت منه بأقل القليل، في مدرستنا كانوا يتكلمون ببطء أكبر كما أنني كنت معتادة على طريقتهم في الكلام . يتقدم مني شاب في مثل عمري يطلب مني الكشكول فأضرب أخماسا في أسداس، أي كشكول هذا الذي يريده مني وليس فيه شيء يذكر؟ ماذا يريد هذا الشاب المتطفل بالضبط ؟ أفكر في صده ثم أفكر في الرد عليه وأخيرا أقرر الصمت فيضحك ويذهب، هل يسخر من سذاجتي ؟ أيا كان قصد هذا الزميل فإنه فتح من أول يوم بالجامعة ملف العلاقة مع الجنس الآخر على اتساعه، في المدارس غير المختلطة لا نصادف هذا الجنس الآخر إلا على مستوى بعض مسؤولي الإدارة والمدرسين ، ولولا هذه القلة من الجنس الآخر لتصرفنا نحن الفتيات تصرف بطلة مسلسل العسل المر التي كانت تخشى الرجال كل الرجال . احتجتُ عدة شهور حتى أُطبّع مع هذا الوضع وأكون أكثر لباقة في التعامل مع الزملاء، كان يوجد بين هؤلاء الزملاء عدد لا بأس به من أبناء الدول العربية وهذا أطال الفترة اللازمة للتطبيع معهم .
***
عام دراسي جديد بدأ قبل أسبوع ، عام لا يربطه بعام ١٩٧٤ شيء تقريبا ، فاحتفال البداية ملون وصاخب وكان احتفالنا متواضعا، والأعداد التي تعبر البوابة الرئيسيّة أكبر من أعدادنا بما لا يقاس وتخضع لتفتيش لم نعرفه، أما قضية الجنس الآخر فتكفلت بتذليلها وسائل التواصل.