«حامض حلو» - صحافة عربية - بوابة الشروق
السبت 23 أغسطس 2025 10:57 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع النجاح لنظام الدوري المصري الجديد في ظل مشاركة 21 فريقًا؟

«حامض حلو»

نشر فى : السبت 23 أغسطس 2025 - 7:10 م | آخر تحديث : السبت 23 أغسطس 2025 - 7:10 م

نشرت جريدة الخليج الإماراتية مقالًا للكاتب حسن مدن، بدا فيه وكأنه يمزج الكلمات كما يمزج الطباخ مكونات أطباقه، ليصنع وصفة أدبية بنكهة عراقية خالصة. المقال لا يقتصر على استعادة وصفة طعام تقليدية، بل يفتح أمام القارئ بابًا إلى عالم اللغة، والذاكرة الشعبية، والحنين الذى يختبئ فى مفردات المطبخ وأغانى الناس. فمن خلال لقاء إذاعى عابر مع الشيف العراقية أمانى، التى تشرح وصفة «الدولما» باللهجة البغدادية، يكتشف الكاتب أن حروف اللهجة وأصواتها تحمل موسيقى خاصة، لا تقل جمالًا عن الشعر والأغنية. وهكذا تتحول الكلمات - من «التمن» و«الباكَلاء» إلى «حامض حلو» - إلى مفاتيح لعوالم أوسع: أغانٍ عراقية خالدة، أبيات شعرية مشبعة بالرمز، واستعادات وجدانية تربط الطعم بالحسّ الفنى، والذاكرة بالذائقة. بهذا المعنى، فإن المقال يضع أمامنا تجربة تُظهر كيف يمكن لوصفة طعام أن تصبح نصًا أدبيًا نابضًا بالحياة، وكيف يمكن للهجة أن تتحول إلى جسر يصل بين التراث والمخيلة.. نعرض من المقال ما يلى:


ربما يعرفها بعضكم، أو استمع إليها فى برنامج تليفزيونى أو على إحدى وسائل التواصل، وهى تتحدث عن وصفات تحضير وجبات أكل لذيذة، أما أنا فقد استمعت إليها أول مرة، وبالمصادفة، قبل أيام، فى برنامج «كوفى شو» على إذاعة «مونتى كارلو» بالعربية. «الشيف» العراقية أمانى، هكذا أسماها مقدّم البرنامج وهو يُحييها، وبعد أن ردّت التحية، سألته: «أتكلم باللهجة العراقية.. ممكن؟»، فأجابها: «أحلى وأحلى». وشرعت فى عرض وصفة تحضير وجبة «الدولما» العراقية. ومثل المذيع، كنتُ مستمتعًا بسماع لهجتها العراقية بدرجةٍ لا تقلّ، بل تفوق، متابعتى لعرض خطوات تحضير «الدولما»، فتوالت المفردات من فمها، فيما كان المذيع يتدخل عند بعضها شارحًا المقصود: «التمن» يعنى الرز، «الباكَلاء» تعنى الفول، «شِجَر» يعنى الكوسة وهكذا.


يبدو لى أن أحد أسباب عذوبة لهجة العراقيين هى الكسرة تحت كثير من الحروف. ما يقال فى اللهجات العربية الأخرى مضمومًا أو مفتوحًا، تضفى الكسرة فى كلام العراقيين جمالًا على نطقه. لتفهموا ما أقصد اسمعوا، مثلًا، كيف يلفظ الفنان ياس خضر مفردة «الليل» فى أغنية «مرينا بيكم حمد وإحنا فى قطار الليل». ليس ياس خضر وحده. ستلاحظون ذلك فى بقية الأغانى العراقية، وفى كل شعر مظفر النواب وعريان السيد خلف وغيرهما بالعامية.


نعود للشيف أمانى و«الدولما» العراقية التى قسّمتها إلى ثلاث: بغدادية وبصراوية وكردية (أو تركمانية)، قالت إن أهل الشمال يطبخونها باللبن، وأهل الجنوب فى البصرة يضيفون عليها الدبس، أما «الدولما» البغدادية، الألذ برأيها، فهى من نوع «حامض حلو».
لم أنجُ من سحر «حامض حلو» هذه. ربما لأنى تذكرت أغنية فاضل عواد «لا خبر.. لا جفية.. لا حامض حلو.. لا شربت»، وأيضًا أغنية الفنان البحرينى الراحل محمد حسن التى راجت فى النصف الثانى من القرن الماضى «يا اللومى.. يا اللومى.. حامض حلو»، والمقصود باللومى الليمون.


يُطلق تعبير «حامض حلو» على الأكلات أو المشروبات التى تجمع بين مكوّنات حامضة (مُرّة) وحلوة فى نفس الوقت. وبشىء من البحث، وقعت على أبيات شعر ذات صلة، بينها بيت منسوب إلى صفى الدين الحلى يقول: «يعذُبُ لى الأحماضُ فى قابضٍ/ حلوٍ إذا ما مرّ يستملحُ».


استعصى عليّ فهم معنى البيت، وفى حالٍ مثل هذه اجتمع فيها الشعر واللغة، طلبتُ العون من الصديق الشاعر السورى المقيم بالإمارات جميل دارى. أرسلت له البيت فأفادنى بأن المعنى هنا أقرب إلى اللغز، وربما أراد قائله إنّ «ضرب الحبيب زبيب». صحيح أنّه موجع ولكنه لذيذ، مذكّرًا إيانا بقول المتنبى مخاطبًا سيف الدولة: «إن كانَ سَرّكُمُ ما قَالَ حاسِدُنا/ فما لِجُرحٍ إذا أرضاكُمُ أَلَمُ».

التعليقات